أيجوز لناقدٍ، يُطلب منه أنْ يُشارك في لجنة تحكيم في مهرجانٍ سينمائي، أو أنْ يترأّسها، الكتابة عن أفلام المسابقة، بعد انتهاء إعلان النتائج طبعاً؟
يُلحّ عليّ سؤالٌ كهذا، بعد ترؤسي لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ3 (11 ـ 16 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان القدس للسينما العربية". التجربة، بحدّ ذاتها، ممتعة: القدس. أفلام قصيرة. رئاسة لجنة تحكيم. نقاشٌ مع عضوين آخرين، هما الممثلة المصرية سلوى محمد علي والمخرج الفلسطيني سعيد زاغة، والنقاش الافتراضي سلسٌ ومُحبّب وعميق. محاولة اكتشاف راهن صناعة أفلام قصيرة عربية، وأهميتها والحاجة إليها، في مشهدٍ يطغى عليه "هوس" الفيلم الطويل.
الجانب المهنيّ، في طرح السؤال، طاغٍ. الفصل بين مهنة النقد والمشاركة في لجنة تحكيم ضروري، لكنّ إلحاح النقد أقوى من تجاوزه، والتغاضي عنه. الهاجس واضحٌ: الكتابة تُعبّر عن رأي الناقد طبعاً. لكنْ، ألن يعتبر قرّاء وقارئات، إنْ يكن هناك قرّاء وقارئات، أنّ الكتابة النقدية ربما تكون انعكاساً (موارباً) لرأي اللجنة ونقاشاتها؟ أو لرأي الناقد في نقاش أعضاء اللجنة؟ النقاش لن يُعلَن، فهذا من بديهيات عمل لجان التحكيم، والتزام أعضائها بهذه البديهية أساسيّ. لذا، النقد انعكاسٌ لعلاقة كاتبه بمشاهداته، ولعلّ فيه بعض ما يقوله في لقاء أعضاء اللجنة.
مهنياً، يؤجّل الناقد/الناقدة كتابتهما عن أفلامٍ مشاركة في لجنة تحكيم، يكونان عضوين فيها، أو رئيسين لها، إلى ما بعد إعلان النتائج. الكتابة، حينها، استكمال لـ"متعةٍ" يريدها الناقد في قراءته الخاصّة أفلاماً مشاركة، يختارها من بين 13 فيلماً (الإنتاج حاصلٌ بين عامي 2021 و2023)، إذْ يراها أهمّ سينمائياً، كتابة وإخراجاً وقولاً وتقنيات. بعض المختار غير فائز، والأفلام الفائزة لن تكون، بالضرورة، من بين الأفلام المختارة للكتابة النقدية.
فيلمان يفوزان بجائزتي المسابقة: "فلسطين 87" (فلسطين، 2022، 12 دقيقة) لبلال الخطيب أفضل فيلم، و"هو ميت الآن" (مصر، 2022، 11 دقيقة) لطارق الشربيني جائزة لجنة التحكيم. ثالثٌ ينال تنويهاً خاصاً: "ترانزيت" (العراق، 2023، 16 دقيقة) للباقر الرباعي. الفوز متأتٍ من توافق بعد نقاش. فهل تختلف الكتابة النقدية عن التوافق، أم أنّها امتدادٌ له، لكنْ وفقاً لرأي كاتبها؟ تختار الكتابة النقدية أفلاماً غير فائزة، فهل يعني هذا أنّ كاتبها راغبٌ في فوزها، أمّ أنّ الكتابة رأي نقدي بحت، لا علاقة له بالمهرجان والمسابقة، وبنقاش أعضاء لجنة التحكيم؟
مثلاً: "غداً يأتي الحبّ" (إنتاج مشترك بين فلسطين ولبنان وفرنسا وبلجيكا، 2021، 8 دقائق) لركان مياسي، و"أصداء" (لبنان، 2021، 8 دقائق) لجوليان قبرصي، و"أوليفيا" (الجزائر، 2023، 5 دقائق) لشوقي بوكاف. الأول من دون كلام. لقطاته متتالية عن أمّ وابنتها، في مخيم للاّجئين. استعداد لتزويج الابنة، التي تنتظر العريس. الملامح وحدها كافيةٌ لأكثر من قول وبوح، عن قلق وألم وخوف من مجهول. الثاني يروي مقتطفات من تاريخ بلدٍ (لبنان)، بكاميرا ثابتة تلتقط عدستها ما يجري في غرفة وشُرفة. عاشقان متزوّجان، يُنجبان، والابن يكبر ويدرس ويسافر ويعود ويتزوّج ويُنجب، ويغيب الوالدان/الجدّان. التاريخ حاضرٌ بكثافة، من 1958 إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، بإشارات وأصواتٍ ونشرات إخبارية سريعة. الثالث تحريك بالأسود والأبيض، عن مخيمٍ ونساء، والثلج كثير والعواصف مخيفة. غصن شجرة يبدو كأنّه ينزف. صوت بكاء رضيع. حيوانات. بتكثيف بصري يقول أشياء وتفاصيل عن قهر وعيش قاسٍ وحياة مُثقلة بهموم وتحدّيات.
كتابةٌ نقدية مختصرة غير مرتبطةٍ بنقاشٍ في لجنة تحكيم. أفلامٌ عدّة تستحقّ "فوزاً"، وعدم فوزها غير مؤثّر يقيمها الجمالية والفنية والتقنية والدرامية، فلكلّ عضو في اللجنة رأي منبثقٌ من وعي واختبارات وتراكم معرفيّ وأمزجة مختلفة.