ليل وقمر وأدوار شاي وعنب وكيزان الذرة المشوية "زرع بدري"، وفي الليلة الموعودة في صيف 1978، اجتمع الفتيان حسام رمضان، نجمنا الذي فضل اللعب في مراكز الشباب ودوراتها الصيفية، على أن يكون لاعبا في الأهلي، مكتفيا بأن يشجعه من بعيد بعد انقلابه المشهود على تشجيع الزمالك، ومحمد حربي الشاعر المثقف، عاشق الإسماعيلي، فاكهة الكرة المصرية، وشقيقي هشام، الذي حرمته نزلة معوية من إكمال اللعب في الزمالك، بعد أن سجل بفريق الشباب تحت 18 سنة، وكاتب هذه السطور الحالم بأن يكون يوماً نجماً لا مجرد لاعب في صفوف مدرسة الفن والهندسة، ومعنا مواهب كروية أخرى، عطلها ما كنا نتوهمه من بعد المسافة إلى القاهرة، عن أن يكونوا نجوما في فرق الممتاز؛ وتلك حكاية أمني النفس بأن أكتبها ذات مرة؛ فهي تروي السيناريو المصري المتكرر في ضياع آلاف المواهب في أقاليم البلاد، تحت وطأة الإهمال، وزهد القرويين في منظومة الاحتراف حينها.
الليلة يلعب المنتخب الهولندي، صاحب أرفع مستوى من العزف الكروي الخالص، مخترع مفهوم الكرة الشاملة، المثخن بجراح خسارته الظالمة لكأس العالم، أمام المستضيفة، ألمانيا، في نهائي 1974، مع الأرجنتين، المحمولة عبر سلسلة طويلة من شبهات التواطؤ والمجاملات التحكيمية، إلى المباراة النهائية؛ وقد تجاوز منتخب بيرو بستة أهداف نظيفة؛ في واحدة من أكثر المباريات المشبوهة شهرة في تاريخ كأس العالم.
أغلب الترشيحات ترجح كفة الطاحونة الهولندية، وتلك أمنيتي وقتها، قبل أن أعود لتشجيع الكرة اللاتينية، بجمالها وفوضاها، حد العشوائية والسذاجة في كثير من الأحيان، لكنها تبقى التعبير الكروي الناصع عن إبداع الفقراء، والثوار، والتوهج الفطري للموهبة الإنسانية.
أسماء النجوم في "البرتقالي" مرعبة، حتى في غياب يوهان كرويف، الموهبة الاستثنائية في تاريخ كرة القدم، ما زالت في ذاكرتي، هان، يانسن، ويلدشوت، فان دي كيركوف، رينزينبرينك، نيسكينز، جوني ريب، ريسبيرغن، نانينغا، سوربيير، رود كرول، يقودهم أحد عباقرة الكرة الجميلة في العالم، المدرب، إرنست هابل.
صديقنا محمد حربي، وبالمناسبة كان لاعباً موهوباً، وممتلئاً بكل عيوب الموهوبين، يلعب وفق مزاجه، ويميل للاستعراض، واللعبة الحلوة؛ حتى لو خرب بيت فريقه؛ وبقيت مع حسام الأكثر موهبة بيننا، نبدي تخوفنا من أن الهولندي أفضل، أقوى، أكثر إبداعاً وإمتاعاً، لكنّه سيخسر؛ لأنه لا يقاتل وليس معه جمهور مرعب كجمهور الأرجنتين، التي لم تكن تمتلك الكثير من النجوم، باستثناء باساريلا، والهداف كمبس، وأرديليس، لكنهم منتخب يقاتل ويعرف إمكانياته، ويمتلك مدرباً شديد الذكاء والواقعية، هو مينوتي.
حربي مشغول جداً بالتشبيهات، يختار لنفسه ولنا ما يتصور أننا نشبههم في الشكل، أو في طريقة اللعب، فهو ريب، وحسام هان، وأنا نيسكنز قنديل، كما اختار لي؛ ونحن لا نملك حق الاختيار ولا تبديل الأسماء، وإن أعجبتنا؛ ربما لأنه كان من المعجبين كثيراً بما يكتبه الناقد الأشهر في الصحافة الرياضية المصرية، نجيب المستكاوي.
... ثم حدث ما تخوفنا منه، فهولندا تتألق وتبدع، وتعزف سيمفونية كروية رفيعة المستوى، والأرجنتين تلعب بواقعية ووفق قدراتها، وتحت زئير هادر لجمهورها في الملعب وشعبها في الميادين والشوارع والمنازل الفقيرة تفوز ويحمل قائدها كأس العالم، ونحن نحزن قليلاً؛ لكنّنا نفرح معهم ونقول، المجد للفقراء.