قبل 33 عاماً، تصادف عرض الجزء الأول من مسلسلي "ليالي الحلمية" و"رأفت الهجان" في رمضان عام 1987، وقد حققا نجاحاً استثنائياً حينها، إذ كانت الشوارع تخلو من المارة في موعد عرضهما، وأصبحا حدثاً مهماً يتشارك فيه الناس بقدر ما يتشاركون مباريات كرة القدم. منذ تلك اللحظة البعيدة التقط المنتجون فكرة "الموسم الرمضاني" موعداً مثالياً لعرض المسلسلات.
صحيح أن "ليالي الحلمية" و"رأفت الهجان" نجحا بسبب جودتهما الفنية العالية، لكن أيضاً تحضر حالة استرخاء عامة وشكل مواعيد محددة خلال شهر رمضان تجعل فرصة مشاهدة الأعمال التلفزيونية خلاله أعلى. وهكذا نشأت "دراما الـ 30 حلقة"، فأي قصة أو حكاية يجب أن تمتد لـ30 يوماً وتنتهي مع نهاية شهر رمضان.
في البداية لم تكن تلك مشكلة ضخمة، فعدد القنوات التلفزيونية محدود، وعدد الأعمال والصنّاع كذلك، والعمل يستمر لمدة سنة تقريباً، فتخرج الدراما الثلاثينية بشكل مناسب ومتعوب عليه. لكن الظروف تغيرت في العقدين الأخيرين؛ قنوات فضائية كثيرة، وعدد لا يحصى من الصنّاع والممثلين، ومساحة واسعة من التنوّع والعرض والطلب. وبسبب ضغوط مختلفة، إنتاجية وتجارية تحديداً، صارت المسلسلات تُكتب وتُصور وتعرض في 4 أو 5 أشهر، مما قلل من جودة الدراما المصرية، وجعلها تنحدر عاماً بعد آخر، لتصبح المسلسلات الجيدة فعلاً، في السنوات العشر الأخيرة، تُعَد على أصابع اليد الواحدة.
وحين أقبلت سنة 2020، بدا أن هذا الشكل شديد الرسوخ للدراما التلفزيونية يمكن ــ أخيراً ــ أن يتغير. شهدت السنوات الأخيرة تغيراً بطيئاً في عادات المشاهدة عند المتفرج المصري، حتى في رمضان. بدأ أولاً مع تفضيل شريحة كبيرة من الجمهور، وخاصة الشباب منهم، مشاهدة حلقات مسلسلاتهم المفضلة على "يوتيوب" بدلاً من التلفزيون، وذلك لتجنب السيل المزعج من الإعلانات التي تقطع أي حلقة تلفزيونية كل 5 دقائق.
بالتوازي مع ذلك، بدأت تجربة منصة "نتفليكس" ومسلسلاتها تنجح وتشتهر حول العالم، ومسلسلات مثل "هاوس أوف كاردز" House of Cards و"ناركوس" Narcos و"أمور غريبة" Stranger Things تحظى بشعبية واسعة وسط الجمهور المصري والعربي. كانت مسألة وقت كي تأخذ التجربة طابعاً محلياً.
في 2020 تمت المسألة بحدثين كبيرين: إنتاج "نتفليكس" الأول في مصر، عبر مسلسل "ما وراء الطبيعة" الذي حقق نجاحاً كبيراً عند عرضه مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وحتى مساحة الجدل الضخمة التي جرت بين مؤيد ومعارض للمسلسل، والنقاشات عن اختلاف أحداث المعالجة التي قدمها المخرج عمرو سلامة مع روايات الجيب ذائعة الشهرة التي كتبها أحمد خالد توفيق، كانت في صالح التجربة التي لم تمر مرور الكرام مثل إنتاج "نتفليكس" العربي السابق في مسلسل "جنّ" الأردني.
أما الحدث الثاني فهو توسع شبكة "شاهد" في إنتاجها الأصلي والخاص منذ بداية العام الحالي، في مسلسلات تدور غالباً في 10 حلقات، وبمساحة أكبر من التحضير والتنفيذ بدلاً من ضغط رمضان المستمر، فشاهدنا مسلسلات "في كل أسبوع يوم جمعة" من بطولة منة شلبي وآسر ياسين وسوسن بدر ودارت أحداثه في 10 حلقات، ومسلسل "مملكة إبليس" من بطولة رانيا يوسف وغادة عادل ودارت أحداثه على جزأين كل واحد من 15 حلقة، ومسلسل "ليه لأ" من بطولة أمينة خليل وإخراج مريم أبو عوف وكان 15 حلقة، ومسلسل "الحرامي" الذي أخذ التجربة لمكان مختلف، إذ أنه لا يمتد فقط على 10 حلقات، ولكن مدة كل حلقة لا تزيد عن 10 دقائق، وهو من بطولة أحمد داش ورانيا يوسف.
"شاهد" عرضت أيضاً خلال الشهرين الأخيرين مسلسلها "نمرة اتنين" الذي يدور في 8 حلقات منفصلة، لكل حلقة مخرجها ومؤلفها وأبطالها المختلفين، وضمت أسماء مهمة جداً في صناعة السينما والدراما في مصر، على رأسها يسري نصر الله وطارق العريان وتامر محسن ومريم نعوم. ونجحت التجربة في البروز وإثارة الجدل والنقاشات التي تجعلها قابلة للاستمرار في مسلسلات أخرى تتبع النمط نفسه.
إنتاج "نتفليكس" الأول في مصر وتوسع "شاهد" طَبَعا عام 2020
هناك أكثر من ميزة في ما حدث خلال عام 2020، والأهم على الإطلاق هو كسر نَمَط الـ 30 حلقة الجامد، وسرد القصص في المدة الأكثر ملائمة لها، مع وجود قوالب عدة لذلك، سواء حلقة واحدة أو 10 أو أكثر، فضلاً عن تفاوت مدة الحلقة نفسها بشكل يُناسب كل حكاية.
"كسر النمط" هذا يكسر معه أيضاً مركزية "شهر رمضان" كموعد للعرض، والأهم أنه يجاري ما يحدث في العالم كله حالياً في جعل المسلسلات "أكثر سينمائية" في جودة الصورة والمواضيع والتنفيذ والعناية بالتفاصيل كلها، مما يسمح لها بجذب أسماء في القطاع.
الدينامية هذه مع وجود منصات مشاهدة أصغر تقدم إنتاجاتها الأصلية أيضاً، مثل "فيو" Viu و"ووتش إت!" Watch iT!، إلى جانب "شاهد" و"نتفليكس"، يُبشر بمستقبل أفضل لصناعة الدراما والتلفزيون في مصر، ويجعل من 2020 التي أثرت سلباً على السينما والأفلام، إن كان عبر إطفاء الكاميرات ومنع التصوير أو إغلاق دور السينما أمام روادها، هي انطلاقة جيدة لصناعة مسلسلات تلفزيونية مختلفة.