شهدت السنوات الأخيرة ظاهرة انتشار المعارض التشكيلية والفنية الرّقمية الضخمة، تلك التي تنتقل بنجاح و"خفّة" بين العواصم الأوروبية المختلفة، حاملة عروضاً رقمية لأعمال كبار الفنانين العالميين.
واليو تجمع المصادفات وحدها ثلاثة معارض رقمية كبرى في بلجيكا، لكلّ من النّمساوي غوستاف كليمت والهولندي فان غوخ، ومعرض ثالث جمع بين أعمال الفلمنكيين الثلاثة الكبار: يان فان آيك (1390/1395 - 1441) وبيتر بروغل (1525/1530 - 1569) وبيتر باول روبنز (1577 - 1640)، تحت عنوان Meet the Masters (قابلوا المعلمين).
شهدت المعارض الثلاثة إقبالاً كثيفاً، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل ستنافس هذه المعارض الرّقمية طرق العرض المتحفي التقليدية؟ ولماذا كل هذا الإقبال على معارض لا تضم أي أعمال أصلية؟ مكّنت تقنيات التصوير الحديثة فائقة الدقة، عدداً من شركات العروض الفنية أخيراً، من إقامة سلسلة من المعارض التشكيلية لأساتذة الفن في العالم، من دون أن تملك هذه الشركات ولو لوحة واحدة من أعمال الفنانين الذين يعرضون لهم. بالطبع، ما الذي سيجبرك على أن تستعير أصول هذه الأعمال - ذات الأثمان الخيالية - من المتاحف وقاعات العرض والمجموعات الخاصة، وتضطر إلى دفع ملايين الدولارات لأجل تأمينها وشحنها وحمايتها؟ لماذا تكلّف نفسك كل هذه النفقات، إن كان في استطاعتك أن تحوّل هذه الأعمال الأصليّة إلى أعمال رقميّة؟ وتعرضها بشكل مبهر وعلى خلفية موسيقية مختارة بعناية؟
الرجل الذي يقف وراء سلسلة هذه المعارض هو البلجيكي ذو الأصول الإيطالية ماريو إياكامبو، مؤسس مركز المعارض الرقمية والمدير الفني لشركة "إكزبشن هاب" المنظمة لمعرضي فان غوغ وكليمت حالياً في بروكسل. نشأت الفكرة لديه عندما نجح قبل سنوات في تقديم عرض ضوئي رقمي خلال عروض فرقة "كافاليا" البهلوانية للأحصنة في بروكسل، والذي أثبت من خلاله مقدرته الفائقة على استخدام الصور الكبيرة بزاوية 360 درجة، ما شجعه لاحقاً على تنفيذ الفكرة ذاتها لإقامة معارض رقمية لكبار الفنانين العالميين، فبدأها بأول معرض رقمي من نوعه للوحات ورسائل الهولندي فينسنت فان غوخ، إذ لاقى حينها إقبالاً كبيراً من الجمهور، وترحيباً من متحف فان غوخ نفسه في أمستردام.
في محاولة لفهم الثورة التي تسعى هذه النوعية من المعارض إلى إحداثها في سوق الفن، علينا أولاً أن نشير إلى حسناتها، ومن أهمها أنها لا تشترط وجود الأعمال الأصلية، ما يمنح إياكامبو ميزة كبيرة على منافسيه التقليديين. فقبل عام واحد، اضطر متحف الفنون الجميلة في مدينة غنت البلجيكية إلى دفع ملايين الدولارات، لاستعارة وتأمين 13 لوحة للفنان البلجيكي يان فان آيك، لتعرض في متحفه، فيما لا يحتاج إياكامبو إلا إلى عدد قليل من الصور عالية الدقة، لإنشاء معرض ضخم للأعمال نفسها.
تخفّفت التقنية الرقمية الجديدة من ثقل كثير من الإجراءات التي طالما قيّدت نقل الأعمال الفنية بين الدول والمعارض والمتاحف، ناهيك عن التكاليف الباهظة التي كانت تخصّص لنقل وتأمين وشحن وتخزين وحماية هذه الأعمال. وكما يشرح ماريو إياكامبو لصحيفة "ده ستاندارد" البلجيكية: "كذلك، هناك حقيقة مرور أكثر من 70 عاماً على رحيل الفنانين الذين ننظّم لهم هذه المعارض، وهذا يمنحنا أيضاً الفرصة ألا ندخل في مفاوضات تخصّ حقوق العرض أو الملكية الفكرية مع أيٍّ كان، لأن أعمالهم صارت ملكاً للجميع بحكم القانون الأوروبي".
يؤمن إياكامبو بأن معارضه التي ينظّمها أيضاً ليست بسيطة أو سهلة، بل هي "نتاج عملية معقّدة، تماماً مثل تنظيم المعارض التقليدية ولكن بطريقة مختلفة، فلكي نحصل على فيديو متحرّك مدّته نصف ساعة لهذه اللوحات، نحتاج إلى 170 ألف صورة رقمية عالية الجودة، وهو ما يقوم به فريق عمل يضمّ 15 فناناً رقمياً، لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أشهر، ليحوّلوا هذه الصور إلى عرض رقمي جذاب وفريد من نوعه".
أثبتت المعارض الرقمية الثلاثة المقامة حالياً في بلجيكا، قدرتها على اجتذاب الزائرين، حتى في ظلّ إغلاق كورونا، الذي بدأت بلجيكا في التخفيف منه أخيراً، ما يبرّره ماريو إياكامبو قائلاً: "شئنا أم أبينا، فإن رقمنة الإرث الفني العالمي أصبح اليوم ضرورة ثقافية لا بدّ منها، فهي التقنية الوحيدة التي ستحفظ لنا هذه الأعمال إن سُرقت أو أُتلفت أو أُحرقت". كذلك، يعترف إياكامبو بصعوبة عرض الأعمال الفنية الأصلية، خاصة أعمال الأساتذة الكبار؛ "لأنها صارت هشّة وقديمة جداً، وأصبح من الصعب السماح لها بالسفر، لذلك فإن المزاوجة بين الشكلين التقليدي والرقمي هو مستقبل العرض الفني، خاصة وأن الرقمنة تتيح لك الكثير من الإمكانيات، مثل الجمع بين أعمال فنية لا يمكنك جمع أصولها معاً، كما في الإمكان جعل عيون المشاهدين تلتفت إلى تفاصيل دقيقة في العمل الفني يصعب رؤيتها بالعين المجردة، والأهم من ذلك أننا نخاطب الجمهور بلغة يعرفها ويفهمها، وانظر إلى الطريقة التي نحصل بها على معلوماتنا اليوم، كلها عن طريق منصات التواصل الاجتماعي، 90 في المائة من وقتنا صرنا نقضيه أمام الشاشات، إذن فمن المنطقي أن تجاري أساليب العرض الفني العصر الذي نعيشه، وتستفيد من تقنياته التكنولوجية الجديدة".
مع بداية أزمة كورونا، أُجبرت أغلب المتاحف الأوروبية على إغلاق أبوابها، وبدأ عدد منها في رقمنة الأعمال الفنية التي تملكها، فيما غامر عدد آخر بإتاحتها على الإنترنت من خلال جولات رقمية، اجتذبت الآلاف من الزيارات اليومية، وهو شيء مفهوم بسبب أزمة كورونا، فالتجول افتراضياً في أحد هذه المتاحف لا يتطلب من عشاق الفن مغادرة بيوتهم.
لكن، رغم هذا، حققت المعارض الافتراضية الثلاثة الأخيرة في بروكسل، لغوستاف كليمت وفان غوغ والثلاثة الفلمنكيين الكبار، إقبالاً جماهيرياً ملحوظاً، ترصده إلسه واختلير مديرة الاتصالات في شركة Create.eu للوسائط المتعددة التي تنظم معرض Meet the Masters قائلة: "نحن مقتنعون بأن هذا النوع من المعارض الرقمية هو المستقبل، ويكفي أن عدد الزوار اليومي لمعرضنا لا يقل عن 900 زيارة في اليوم الواحد".
ووفقاً لياسين بنكيران، مدير معرضي غوستاف كليمت وفان غوخ المقامين حالياً في بروكسل، فقد: "بلغ الحد الأقصى لزوار معرض فان غوغ 1200 زيارة في اليوم، أما كليمت فقد وصلت زياراته اليومية إلى 1300".
ووفقاً لشركة "إكزبشن هاب" المنظّمة للمعرضين: "تم تصميم برنامج العرض على النسق ذاته، حيث يستمع الجمهور في الغرفة الأولى إلى تعريف بالفنان وأعماله وأسلوبه الفني، ثم في قاعة العرض الرئيسية يحظى الجمهور بالجلوس على مقاعد الشواطئ المريحة المصنوعة من القماش، وفي هذه الحالة من الاسترخاء، تنساب انعكاسات اللوحات على جدران وسقف القاعة، إضافة إلى شاشات جانبية تستعرض أعمالا وتمثيلات رقمية لأماكن عاش بها الفنان".
فيما اختار القائمون على تنظيم معرضي كليمت وفان غوخ إتاحة نظارات الواقع الافتراضي أيضاً للجمهور، كوسيلة إضافية لمشاهدة العرض الرقمي.
جدير بالإشارة أيضاً أن متحف فان غوخ في العاصمة الهولندية أمستردام استعان قبل عامين بخدمات شركة "غوغل"، لإتاحة جزء من إرث الفنان على شبكة الإنترنت مجاناً، وهو ما توسّع لاحقاً بعد أزمة كورونا، لتشمل الجولة الافتراضية لمحتويات المتحف عدداً من مقاطع الفيديو المصورة بدقة 4K، وطرحت مجاناً أيضاً على موقع "يوتيوب"، على الرغم من التكلفة المالية العالية التي تحتاجها رقمنة كل هذا الأرشيف الضخم من الأعمال.
يبدو أن النجاح الذي تحقّقه هذه النوعية من المعارض الرقمية مؤخراً، لم يعد يقلق المتاحف التقليدية، حتى أن كارمن ويليمز، مديرة المتحف الوطني للفنون الجميلة في مدينة أنتويرب البلجيكية KMSKA، صرحت لمجلة "كناك" الفلمنكية، في تحقيق لها حول رقمنة الفن قائلة: "إننا نشيد بأي مبادرة تجعل الناس على اتصال دائم بالفن، ومؤكد أن هذه المعارض الافتراضية تسد عجزاً كبيراً تعاني منه المتاحف التقليدية، لكن هذا لا يمنع أن زيارة المتاحف ومشاهدة الأعمال الأصلية ستبقى هي المتعة الأشمل، فحين تتأمل اللوحات الأصلية ترى ضربات الفرشاة، وكيف تختلف وتتباين من فنان إلى آخر، هل تستطيع المعارض الرقمية أن تظهر هذا الاختلاف؟ لا أعتقد".
الترحيب نفسه قام به متحف فان غوخ في أمستردام، على لسان مديرته إميلي خوردنكر التي لم تجد في معرض فان غوخ الرقمي الأخير أي منافسة للمتحف، بل: "أعتبرها إضافة رائعة لكثير من الأسباب، أهمها أن السفر الآن صار صعباً في ظل أزمة كورونا، وثانياً أن المعرض الرقمي يتيح للجمهور تلقّي أعمال فان غوخ وفقاً لرؤية مجموعة من المتخصّصين والخبراء، ما يجعل زوّار هذه العروض يكتشفون أسراراً جديدة، ربّما لم يكن لهم اكتشافها في الأعمال الأصلية"، وتختتم خوردنكر كلامها بالحماس ذاته: "وهذا أيضاً هو السبب في أن متحف فان غوخ نفسه أقام تجربة رقمية مماثلة تحت عنوان Meet Vincent Van Gogh Experience التي يتم عرضها حالياً بنجاح كبير في لشبونة".