تقول القاعدة العامة في صناعة الدراما إنّ النجاح في موسم رمضان يعطي الفنان إحساساً مختلفاً، وأهمية فارقة في مسيرته المهنية، بسبب المنافسة القوية بين عشرات المسلسلات التي تعرض في وقت واحد، في موسم يتزايد خلاله اهتمام الجمهور بالتلفزيون ومحتواه.
لكن يبدو أن هذه القاعدة تتغير الآن، وبات النجاح على المنصات الرقمية له أهمية أكبر من تلك التي يحقهها الفنان على التلفزيون، وذلك نتيجة الواقع التنافسي الجديد الذي فرضته المنصات على صناعة الدراما العربية حالياً، وقد ظهر تأثيرها بوضوح في موسم رمضان الأخير.
لا يقتصر تأثير المنصات الرقمية على تغيير وسيلة عرض ومشاهدة المسلسلات فقط، بل يمتد تأثيرها إلى مختلف جوانب الصناعة: من الكتابة والسيناريو إلى اختيار النجوم وحجم الإنتاج وتحديد معايير النجاح المختلفة عن التلفزيون، وربما لأول مرة بات عدد مسلسلات المنصات التي تعرض خلال السنة قريباً من تلك المعروضة على التلفزيون في موسم رمضان. إذ أنتجت منصة شاهد (تابعة لمجموعة MBC السعودية)، خلال العام الأخير وقبل موسم رمضان 2023، أكثر من 20 مسلسلاً، في حين عرضت في رمضان ما يقارب 26 مسلسلاً بالتزامن مع عرضها التلفزيوني، وهو معدل مرتفع مقارنة بإنتاجات العام السابق، الذي أنتجت خلاله "شاهد" ما يقارب 11 مسلسلاً جديداً.
صراع الوسيطَين
تزايد أهمية المنصات في صناعة الدراما يبشر بتغييرات عدة في طريقة إنتاج المسلسلات نفسها، التي عادة ما تقوم على أساس العائد الإعلاني من العرض التلفزيوني. إذ إن المنتجين يبدأون كل سنة رحلة صناعة المسلسل باختيار النجم الجماهيري المطلوب إعلانياً أولاً، ومن بعده اختيار المحطة التلفزيونية التي ستستضيف مسلسل هذا النجم، وبعد إتمام الصفقة، يخوض المنتج مهمة صناعة المسلسل وتصويره. وتتسبب هذه الطريقة بمشكلات فنية عدة نظراً لضيق الوقت وكتابة المشاهد وتصويرها أثناء عرض المسلسل، وذلك كنتيجة طبيعية لبدء رحلة تنفيذ العمل بعد بيعه وتسويقه، أي قبل أشهر قليلة من انطلاق موسم العرض.
تتسبب هذه الطريقة أيضاً في تكرار أسماء معينة من النجوم كل موسم، وتكرار محتويات المسلسلات، والابتعاد عن المغامرة والتجديد من أجل ضمان الربح والإعلانات وخوفاً من الفشل في التسويق أو عدم اللحاق بموسم العرض. لكن يبدو أن الحال بدأة تتغيّر نتيجة الطريقة المختلفة لصناعة المسلسلات على المنصات، التي تعتمد في الأساس على اشتراكات الجمهور وتقييماتهم الفورية، وعلى وفرة الأعمال الفنية على المنصة، وعدم انتظار تحديد المعلنين وأصحاب القنوات الفضائية رغباتهم التسويقية. هكذا تُتاح حرية أكبر في اختيار الشكل والمضمون وعدد الحلقات ومدة التصوير، ما ينعكس إيجاباً على مستوى الأعمال فنياً.
أثرت عادات المشاهدة على المنصات على سوق المسلسلات ككل، وكانت أولى النتائج تزايد عدد المسلسلات المكونة من 15 حلقة في موسم رمضان الأخير، وانتهاء عادة الـ30 حلقة التي صنعتها القنوات الفضائية. كذلك انتهت سياسة العروض الحصرية على الشاشة بسبب وجود المسلسلات على أكثر من وسيلة عرض، وانتهت معها ثقافة مشاهدة الجمهور المسلسلات في وقت واحد على الشاشة التلفزيونية، وأصبح بإمكانه مشاهدة العمل في أي وقت. وهذه العادات الجديدة في المشاهدة قد تنهي في المستقبل القريب أساس موسم رمضان القائم على العرض التلفزيوني وتنافس المعلنين والمنتجين على عرض أعمالهم في توقيتات مميزة على مدار اليوم.
المنصات تفرض نجومها
مع الإقبال المتزايد على المنصات الرقمية، تتضائل قدرة المشاهد على انتظار الحلقات الجديدة بشكل يومي وعلى تحمل الفواصل الإعلانية الطويلة التي قد تفسد متعة المشاهدة، بالمقارنة مع المنصات التي تتيح مشاهدة بلا انقطاع، وهي ظروف مشاهدة ستغير طريقة بناء حلقات المسلسل لكي تتناسب مع المشاهدة المتصلة، مع ضرورة جذب المشاهد من المشاهد الأولى. ونتج عن هذه الطريقة الجديدة ظهور نجوم جدد أيضاً على الشاشة، كان من الصعب أن نراهم أبطالاً خارج المنصات.
هكذا كسرت المنصات احتكار النجوم الشاشة التلفزيونية، وأتاحت لأسماء جديدة إمكانية الظهور بعيداً عن السياسات الإعلانية، مثل بزوغ نجم ريهام عبد الغفور بعد سنوات من الأدوار الثانوية، فأنتجت في عام واحد حوالي 4 مسلسلات من بطولتها على منصة "شاهد". الحال نفسها تكررت مع ماجد الكدواني، الذي قضى أغلب مسيرته في الأدوار الثانوية قبل نجاحه في تجربة مسلسل "موضوع عائلي".
وأعطت المنصات مساحة لعدد من الوجوه الجديدة في الصعود، مثل التجربة الأبرز في مسلسل "بالطو" التي كانت قائمة على الشباب في مختلف عناصر المسلسل، فمعظمهم خاض التجربة لأول مرة، مثل المؤلف أحمد عاطف والمخرج عمر المهندس والممثل عصام عمر. ونجح المسلسل في إعادة الأمل لمنصة "واتش إت" المصرية في المنافسة.
أتاحت أيضاً المنصات الفرصة لموضوعات درامية لا تلقى ترحيباً على التلفزيون، مثل الأعمال الغنائية والاستعراضية، كمسلسل "مجنونة بيك" و"سكر"، وكذلك مسلسلات الرعب مثل "غرفة 307" وغيرها، وعرضت تجارب شبابية عدة مثل مسلسلي "ريفو" و"بيمبو"، وأصبحت للجميع فرصة للصعود بعيداً عن قواعد التلفزيون التقليدية، خصوصاً أنّ هناك مساحة أخرى للتجريب من خلال إنتاج مسلسلات من 5 و7 حلقات، وقياس مدى نجاحها قبل اتخاذ قرار تكملتها بحلقات ومواسم إضافية، وهي رفاهية إنتاجية لم تكن متاحة في السابق.
في المنافسة بين المنصات والتلفزيون، من المتوقع أن تميل الكفة للوسيط الأول، الجديد والشبابي، في وقت يتضاعف فيه حجم استثمار ومنافسة هذه المنصات في العالم العربي بدخول منصات عالمية للسوق أخيراً، مثل "أمازون برايم" و"ديزني +"، إلى جانب المنصات الموجودة أساساً مثل "نتفليكس" و"شاهد" و"أو إس إن" و"تود" وغيرها. هذا الحضور الطاغي يترجم بمؤشرات وأرقام واضحة. فقد كشفت شركة أبحاث الإعلام Dataxis زيادة عدد مشتركي المنصات في الشرق الأوسط بنسبة 30 في المائة بين عامي 2020 و2021، ووصل عدد المستخدمين إلى ما يقارب 10 ملايين مشترك في 18 دولة، من بينهم 3 ملايين مشترك تقريباً في منصة "شاهد VIP فقط، وتتوقع الشركة أن يصل عدد المشتركين إلى 30 مليون مشترك في 2026، ما يجعل المستقبل القريب للمسلسلات في قبضة المنصات.