أثار "المهرجان الوطني للفيلم بطنجة" ترقّباً كبيراً، بعد تأجيل دورته الـ23 من موعدها الأول، المُقرّر في 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بسبب انشغال البلد بإنقاذ ضحايا الهزّة الأرضية ومساعدتهم، في منطقة الحوز، في 8 سبتمبر/أيلول 2023. ترقّبٌ خبا شيئاً ما عند إعلان الأفلام المشاركة، وتسجيل غياب أفلام مغربية مهمّة، خصوصاً تلك التي شاركت في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، وتُوجّت ببعض جوائزه، كـ"الثلث الخالي" لفوزي بن السعيدي (شارك فيلمه الجديد الآخر "أيّام الصيف" في طنجة)، و"كذب أبيض" لأسماء المدير، و"عصابات" لكمال لزرق، أو في مهرجانات دولية أخرى، كـ"أنيماليا" لصوفيا علوي، بسبب التزام، أو رغبة أصحابها في تقديمها في عرض أول في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط، في الدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش".
هذا كلّه يطرح مجدّداً ضرورة عودة "المهرجان الوطني" إلى موعده المعتاد، في بداية السنة (نهاية يناير/كانون الثاني، أو منتصف فبراير/شباط)، لإتاحة وقتٍ أكثر للتحضير له، بعد انقضاء العطلة الصيفية، وتجنّب المنافسة على العروض الأولى مع أهمّ تظاهرة سينمائية تُقام في المغرب.
ملاحظات عامة
أبرز ما ميّز الدورة هذه (27 أكتوبر/تشرين الأول ـ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، تحقيق تقدّم ملحوظ في مستوى التنظيم، خصوصاً بعد الاستغناء عن مشاركة أعضاء من غرف مهنية في لجان الانتقاء والتحكيم، الذي نجم عن فضائح أخلاقية في الدورة السابقة. كذلك إنّ حفلَي الافتتاح والختام، اللذين أُقيما للمرّة الأولى في فضاء "خيمة برج البارود"، المُشيّد إلى جانب ميناء المدينة على مساحة فسيحة، بشكل بديع ومُجهّز جيّداً (احتضن عروض البانوراما أيضاً)، شهدا تركيزاً أكبر في محتواهما، وكلمات افتتاحية أقلّ، وسلاسة أكبر في تقديم الفقرات وضبط إيقاعها، بينما جرت عروض المسابقتين الرسميتين للفيلمين، الطويل والقصير، في صالة "روكسي" التاريخية، واحتضنت قاعة "ميغاراما غويا" عروض المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية.
شَابَ الغموض بعض خيارات البرمجة في البانوراما، خصوصاً بالنسبة إلى الأفلام القصيرة، كـ"خيال الفراشات" لصوفيا الخياري، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ47 (11 ـ 17 يونيو/حزيران 2023) لـ"المهرجان الدولي لأفلام التحريك بأنِّسي"، والحائز تنويهاً في الدورة الـ21 (3 ـ 8 مارس/آذار 2023) لـ"المهرجان الدولي لسينما التحريك في مكناس (فيكام)"، ولم يُبرمج في المسابقة الرسمية، في وقت تحتاج فيه سينما التحريك المغربية للتشجيع، وتسليط الأضواء، ورفع الأحكام الجاهزة التي تقرنها بالأطفال. بينما اختيرت أفلامٌ بيّنة الضعف فنياً، وسمجة الطّرح، كـ"الموجة الأخيرة" لمصطفى فرماتي، و"أميرة" لرشيدة السعدي، و"ظل بّا" لسارة رخى. إضافة إلى إلغاء عرض "أيّور" لزينب واكريم، الفائز بالجائزة الثالثة لمسابقة "مدارس السينما" في مهرجان "كانّ"، بعد الإعلان في بيانٍ أوّل عن مشاركته في البانوراما.
منح نور الدين لخماري، رئيس لجنة تحكيم المدارس، الجائزة الكبرى لأنس الزماطي (ثانوية اللّيمون) "شهادة التقني العالي المتخصّص" عن "الفزّاعة": وضع عبثي لشابٍ يضطرّ إلى العمل فزّاعةً في حقل، ويحاول الفرار برفقة محبوبته إلى أفق أفضل. اتّسم الفيلم بنضج لافت للانتباه في استثمار الفضاءات المفتوحة، وفلتات شاعرية واعدة، تتركّز في مشهد بديع، يركض فيه البطل وراء محبوبته، مع اختيار موسيقيّ ذكي، وغموض فنّي خلّاق حول النهاية. مسابقةٌ شكّل استحداثها أحد نجاحات الدورة هذه، وينبغي تطويرها عبر رفع عدد المشاركين، وإضافة جائزتين، ثانية وثالثة، لتحقيق فرص تشجيع أكبر للمواهب المدرسية.
خلّفت قرارات لجنة تحكيم مسابقة الفيلم القصير (3 جوائز)، برئاسة المخرجة وكاتبة السيناريو غيثة القصّار، شبه توافق بين المتابعين حول استحقاقها، حيث تُوّج كريم السويسي بجائزة أفضل سيناريو عن فيلمه "حيوانات منوية"، الذي يتّخذ من قصة تراجيدية الطابع، تدور في مغرب ديستوبي المعالم (تدوّي فيه صفارات الإنذار ببداية حظر التجول، وتغدو فيه مشاهد ضحايا الاعتداءات جزءاً من الحياة اليومية) ذريعةً لتقديم مرافعة صادمة ضد التحرّش والعنف الموجّه للنساء، عبر حكاية أمّ تعيش مع ابنها الشاب، ذي التصرّفات الأنثوية، قبل التحاق الأخير بعصابة ليلية تتبع "مُود" الـ"بونك"، مُدشّناً طقس تعميد شبه وثني، يقاربه المخرج بإبداع في تصميم الديكور والأزياء، مع أداء لافت للانتباه لجليلة التلمسي، ودبشة في دور زعيم العصابة، وفق مونتاج متوازٍ يشحذ الترقّب والصدمة حول مآل علاقة الشاب بأمّه، قبل أنْ "يفرّغ" شحنة التوتّر بإيحاء ذكي.
بينما مُنحت جائزة لجنة التحكيم لـ"لا مفتاح" لوليد المسناوي، فاز "على قبر والدي" لجواهين زنتار بالجائزة الكبرى: اتّسم الفيلم باقتصادٍ في الحبكة ورهافة في الرؤية، عبر اقتناص المسكوت عنه وحوار النظرات، في قصة طفلة تعود من فرنسا مع عائلتها وجثمان والدها لدفنه في قريته الأصلية، لتجد نفسها وسط بيئة شديدة المحافظة، تُحرّم دخول الإناث إلى المقابر. بفضل تقطيع ذكيّ، وتبئير مُوفّق على الطفلة، يجعلنا نتماهى مع إحساسها بالاختناق من عجزها عن توديع والدها إلى مثواه الأخير، تتوفّق المخرجة زنتار في بلورة خطاب بالغ الإنسانية من دون أطروحيّة.
أفلامٌ وجوائز
في مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل (جائزتان)، نال عدنان بركة الجائزة الكبرى عن فيلمه الأول "شظايا السماء": عن البدو الرحّل الذين يسعون لكسب عيشهم عبر البحث عن شظايا النيازك، التي تبدو كإبرة في كومة قَشّ في الصحراء المغربية الشاسعة، وتلالها ساحرة الجمال، لبيعها مقابل بضع مئات من الدراهم. يقتفي بركة معلومات علمية من باحثين جامعيين، عن مُكوّنات النجوم ودورة حياتها، ليتمكن، عبر تبئير مرآوي مُبتكَر، من ربط المتناهي في الصّغر والأجرام السماوية العملاقة (نتذكّر رائعة باتريسيو غوزمان، "نوستالجيا الضّوء")، وحقيقة أنّ المعادن المجتمعة، والمُكوّنة لجسم الإنسان، آتية أصلاً من غبار النجوم؛ بمَشاهد بحث البدو عن القطعة النادرة، ليوحي بالدلالة المحورية لفيلمه، التي يبدو البدو وفقها كأنّهم يبحثون عن ذواتهم، وسبل ضمان عيش كريم ومستدام، وسط بيئة قاحلة ومجحفة.
يُنهي بركة فيلمه حيث بدأ "شجرة الحياة" لتيرنس ماليك (هناك تقاطع آخر معه في لقطات تصوّر البدو بكاميرا طافية، مع سماع خواطرهم على الشريط الصوتي) بمَشاهد توضيحية لمخاض تكوّن النجوم قبل التحامها، ثم نشوء النيازك.
رغم بعض الإطناب في مَشاهد البحث، في بداية الفصل الـ3، التي أخلّت شيئاً ما بالإيقاع، ينطوي هذا الفيلم الأول على نَفس مُلهم، ومساهمة فنية رائعة من سارة القدوري، في الاشتغال على الشريط الصوتي. هذا يحثّ على التفكير في رفع عدد الجوائز المخصّصة بالوثائقي، باستحداث "أفضل مساهمة فنية" و"أفضل عمل أول".
جائزة لجنة التحكيم الخاصة مُنحت لـ"مرايا منكسرة"، للشاب عثمان السعدوني، أول تجربة إخراجية له. يقتفي الفيلم مجموعة شباب مغاربة وهم يتمرّنون على عرضٍ لمُصمّم الرقصات بوزيان بوثلجة، يُرتَقب تنظيمه في فرنسا، فيمنحهم الكلمة تباعاً ليرووا قصّة نشوء شغفهم بالرقص المعاصر، والمعضلة التي تعترض تطوّرهم في مجتمع مُحافظ، وينظر بعين الريبة إلى كلّ مختلف، بينما التفرّدُ قلب الرّقص وكنهه؛ وتفشّي نظرة تبخيسية للفنّ من وجهة مادية بحتة وسط العائلات؛ خصوصاً أنّ أغلب الشباب من أوساط فقيرة تبحث عن ضمان مستقبل أفضل لأبنائها. من أجمل لحظات الفيلم، ولُبّ اقتراحه الجمالي، هناك لقطات بالعرض البطيء لمقاطع تمرّن الشباب، بينما يحكون في الخلفية حالة التّمزق التي يعيشونها، ليعانق الرقص بفضل هذه التفعيلة أرقى تجلّياته كوسيلة تعبير عن مكنون الروح بلغة الجسد.
كان يُمكن للفيلم أنْ يكون أقوى، لو أنّ رهانه أقوى وأكثر حشداً للترقّب. لكنّ تجربة هذا الشاب تستحق التنويه، نظراً إلى روحها المستقلّة، والطاقة الشابّة المُعدية، والمنبعثة منها، التي لمسها الحاضرون في كلمة تلقائية ألقاها بعد تسلّمه الجائزة، تقاسم فيها بعض ما قاساه في كتابة الفيلم في مقاهي خريبكة، قبل أنْ يشكر أمّه على "أباريق القهوة" التي كانت تُعدّها له وللمشتغلين معه، "التي ما كان الفيلم ليرى النور لولاها".
قبل إعلان الجوائز، بدءاً بتنويهٍ لـ"اللغم الأخير" لفاطمة أكلاز (فاز أيضاً بجائزة النقد)، أثار المخرج علي الصافي، رئيس لجنة التحكيم، ملاحظة حول ضرورة بذل مجهود أكبر في الانتقاء لتمحيص المقترحات السينمائية عن بعض الريبورتاجات التلفزية، التي تسلّلت إلى المسابقة. لكنّ حصيلة الفيلم الوثائقي، وجلّها أفلام أولى، حتّى عندما لا تكون استثنائية، كما كان حال الدورة الـ22، بوجود 6 أفلام قوية في المسابقة، تُشكّل دائماً منصّة لانطلاقة مخرجين واعدين، نظراً إلى العراقيل المهنية (حرية التعبير والقوانين المؤطرة) الموضوعة أمام هذا الجنس النبيل، والدعم المادي القليل المرصود له، مُقارنةً بالروائي، ما يضع مخرجي الوثائقي في ضيق مالي، لولا دعم القناة المغربية الثانية، والصناديق العربية والأوروبية، إضافة إلى مساندة مهرجانات لها، أوّلها "المهرجان الدولي للفيلم بمراكش" و"فيدادوك".
قلّة قوية
في مسابقة الفيلم الروائي الطويل (14 جائزة)، هناك 15 عملاً، حقّقت كالعادة تنوّعاً في الأجيال والثيمات والأساليب، علاوة على تفاوت في المستوى بين قلّة قوية، وكثرةٍ متوسّطة، لم تُسعف الموهبة والاختيارات أصحابها للتسامي بالدّلالة، وتحقيق التناسق الفني المنشود، إلى بضعة أفلام متواضعة، لا مكان لها في المسابقة (ستُتناول الأفلام المنتمية إلى الفئتين الثانية والثالثة بنقدٍ مُفصّل، عند عرضها في الصالات السينمائية).
نال "أبي لم يمت" لعادل الفاضيلي 6 جوائز: الجائزة الكبرى، أفضل إخراج، أفضل إنتاج، أفضل صورة، أفضل صوت، وأفضل موسيقى أصلية لفتاح نكادي. طفلٌ يعيش في مدينة ملاهٍ مع والده المُكلّف بالصيانة، قبل أنْ يعتقل الأخير سياسياً، بسبب سوء فهم حول توزيع مناشير إعلانية.
رغم مجهود كبير في تصميم الديكور والأزياء والمؤثّرات البصرية، كان الفيلم مُفكّكاً، خصوصاً في قسمه الأول، إذْ أدى ارتباك التوليف وضعف الانتقالات بين المشاهد إلى إيقاع مهزوز، مع توالي حركات كاميرا (الترافلينغ تحديداً) مجرّدة من أي معنى. ومع غياب التبئير (Focalisation) على وجهة نظر الطفل، لمتابعة القصة عبرها، تشتّتت المَشاهد بين الشخصيات الرئيسية والثانوية، المكوّنة من فرقة فنّاني السيرك أساساً. صحيحٌ أنّ بعض المشاهد تبهر بجمالها، كتحريك المنمنمات (لوحات تُعلّق في المنازل والمساجد، تُعبّر عن مواقف مُستمدّة من النصوص الدينية، كفداء إسماعيل بكبش ذبيحة). لكنّ التباس ارتباطها بجوهر القصة جعلها تساهم في الطابع الرئيسي للفيلم: قوقعة جميلة وجذّابة من الخارج، وأضواء السيرك الملوّنة، وأوراق الحائط البرّاقة، لكنّها فارغة لا تقول شيئاً يُذكر في العمق.
جمالٌ بلا روح، يؤكدّه الاستجداء بعناصر من خارج السينما، لمنح الانطباع بوجود طرح، كمقتطف من خطاب ملكي، وخاتمة تنحو إلى مصالحة سياسية، أقلّ ما يقال عنها أنّها تتّسم بالتسرّع والسذاجة. عادل الفاضيلي مخرج طموحٌ يبحث عن الكمال، أمضى نحو 10 أعوام لإنجاز فيلمه الطويل الأول. هذا يحثّ على الاحترام والتقدير، خصوصاً في بيئة يشوبها الاستسهال وغياب الطموح الفني. لكنّ القدرات الإخراجية، التي أبان عنها في هذا الفيلم، لم تكن في مستوى طموحه. استحق الفيلم جائزتين من تلك التي نالها: أفضل إنتاج وأفضل موسيقى أصلية. ولو كانت هناك جائزة أفضل ديكور أو تصميم فنّي، لنالها بلا منازع.
جائزة أفضل عمل أول منحتها لجنة التحكيم، برئاسة سعاد المريقي، لـ"ملكات"، لياسمين بنكيران، المعتمد على جمالية أفلام الطريق، مع حوار ذكيّ وطريف، لرصد تقارب أمّ عزباء تفرّ من السجن مع ابنتها، وفتاة أُرغمت على الزواج من دون حبّ. جانب خرافة "عيشة قنديشة"، التي تعبر الحكي، يبدو مُقحماً إلى حدّ ما، وطابع النسوية الأولية لم يسدِ خدمةً جيدةً للفيلم، حين نأى به عن الصدق والإبداع في مفاتيح نوع فيلم المطاردة البوليسية، إلى نيات متشنّجة ونهاية غير مقنعة.
إلى ذلك، نال "المحكور ما كيبكيش" (أكثر الأفلام المُشاركة استحقاقاً للجائزة الكبرى)، ثاني فيلم طويل لفيصل بوليفة، جوائز عدّة: لجنة التحكيم الخاصة، وأفضل سيناريو، وجائزة النقد، وأفضل دور نسائي لعائشة التّباع، وهذا أداء باهر بصوابه واعتماده على حركات العينين، بتأديتها دور فاطمة الزهراء، المنتقلة من مدينة إلى أخرى، برفقة ابنها سليم (17 عاماً)، هرباً من فضائح تلاحقهما بسبب ماضي الأم بامتهان الدعارة. يحلاّن في طنجة، بحثاً عن انطلاقة جديدة. قوام أسلوب بوليفة، الذي صقله بثبات منذ "اللعنة"، فيلمه القصير ذي الأجواء البازولينية، ممثّلون غير محترفين، وترويقٌ في الحكي (Epuration)، وإيحاء بالنظرات على المسكوت عنه والمُعتَمل في الدواخل، وحوار ذكي ينتمي إلى فئة السهل الممتنع، لبساطته الظاهرة، وانزياحه إلى المساحة الدقيقة بين الشجي (Pathétique) والقاسي، والأهمّ: مسافة عواطف تجعله لا يسقط في أي لحظات في البكائية، رغم قوّة المشاعر المنبعثة من جُلّ المشاهد، وشخصيات ليست ضحية تماماً، ولا وحوشاً بالمعنى المتعارف عليه.
فضاءات سينمائية خالصة، تلتقطها عدسة مديرة التصوير كارولين شامبوتييه (أضاءت أفلاماً لجاك ريفيت وفيليب غاريل وكزافيه بوفوا، وغيرهم)، يقبض بوليفة عبرها على طنجة الهامش والضواحي الجديدة، التي لا تمتّ إلى البطاقات السياحية بصلة، ما يذكّر بنَفَس ليلى الكيلاني في "على الحافة".
على شفير، تقع العلاقة المُعقّدة بين الشاب وأمه، عبر شَدّ وجذب، وتقارب ونفور، وحبّ وكراهية، يساهم في ديناميتها تدبير مثلّثَي حبّ دائمَي الحركة والتطوّر، وفق تقلّبات غنية ومقنعة يشغل ضلعها الثالث، من قرب من الأم، سائق حافلة (شخصية ثانوية رائعة بأصليّتها وصدقها) ينوي الزواج بها، وإلى جانب سليم الفرنسيّ، المالك مشروعاً سياحياً، والمنجذب إلى الخشونة الناشئة من تراكم شعور الشاب بالعار من ماضي أمّه.
لا حشو وبرهنة في "المحكور ما كيبكيش". كلّ فضاء وشخصية وحركة واختزال في مكانه المضبوط، وعلى مسافة مُحكمة. لو أزلتَ عنصراً أو لقطة واحدة، ينهار بنيان الكلّ. علامة الجواهر الفيلمية.
لا مسرح بل اقتباس
كذلك تُوّج "أزرق القفطان" لمريم التوزاني، المنافس بقوّة على الجائزة الكبرى، بجائزتي أفضل مونتاج وأفضل ممثل، استحقّها صالح بكري بجدارة، عن أداء يزاوج بمهارةٍ بين ليونة الحركات وقوة النظرات. وتبدو لكنة نطق الكلمات في كفّته هامشية للغاية، في فيلمٍ تكمن نقطة قوته الرئيسية في الاعتماد على لغة العيون، وحركات الأيدي أكثر من الحوار.
عكس المُتدَاول في التعليقات، لا شيء مسرحيٌّ في "أيام الصيف" (عدم حصوله على جائزة الإخراج ينعطف عن المسار المُوفّق لتوزيع الجوائز)، إلا الفضاء المغلق نسبياً أكثر من العادة، والإشارة إلى أنّه مُقتبس من "بستان الكرز" لأنطون تشيخوف.
كالسينمائيين الكبار، يجرّ فوزي بن السعيدي مصدر الاقتباس إلى سينماه، بالقدر نفسه الذي يذهب فيه ليستمدّ قصته منه. لقطاتٌ ثابتة. عمق مجال. حركات دائمة للشخصيات، دخولاً وخروجاً. هذه علامة المخرج، تحكي الأيام الأخيرة من صراع عائلة من الطبقة البورجوازية، تعود من الخارج إلى فيلا فاخرة، تقع في ضيعة في غابة شاسعة، للحفاظ عليها من مزادٍ علني، بسبب الديون المتراكمة. منذ اجتياح البطّ أرضية الفيلا، في افتتاح الفيلم، يبدو منحى البداوة الزاحفة على الفضاء، بتصرّفات الخادمة والحارس، ثمّ الموسيقى الشعبية المنقضّة على الكلاسيكية، قبل أنْ يحلّ التهديد الحقيقي في ثوب منعش عقاري، بطبائع بدوية، غَدَا بعد نجاحه من الأغنياء الجدد. لكنّ كلّ شيءٍ فيه، لباسه وطريقة مشيه ولغته، يصرخ بالفظاظة وقلّة الذوق.
لا يستثني بن السعيدي البورجوازية، الآخذة في الانحطاط، من نقده، عبر مواقف توضح، على نغمة السخرية، سذاجة ردّة فعلها وزيف دوافعها. طبعٌ، لعلّ شخصية الخال، التي أدّاها بن السعيدي نفسه، تُعبّر عن مداه الأقصى، وتُكرّس توجّه منح نفسه أكثر الأدوار "سلبيةً" بمعنى ما، لكنها تخفي شيئاً جذّاباً في العمق. جمال الفيلم يكمن، خصوصاً، في لحظات غير مرهونة بالحبكة، ترصد حنيناً إلى الماضي، يتوحّد مع رقّة أجواء ما بعد هطول الأمطار، أو انعكاس تمثال غزته فطائر الإهمال في قاع نافورة آسنة، يوحي بتفسّخ شامل تحت مفعول الزمن.
لا يُنسى نزوع مخرج "يا له من عالم رائع" إلى الغمزات السينفيلية، بإشارة إلى فيلمين من علامات سينما البورجوازية الآفلة: "صالون الموسيقى" (1959) لساتياجيت راي، بلقطةٍ تُركّز على ثريّا تترنّح من وقع الفوضى العامة السائدة ليلة الحفل؛ والعجوز الذي يتفرّج على الشباب المنخرطين في رقصة الـ"هيب هوب"، فيذكّر بتغرّب الأمير دي سالينا وسط حشد الفتيات المنهمكات في حركة هائجة، وحديث صاخب، في "الفهد" (1963) للوكّينو فيسكونتي.