بدأت منصة "نتفليكس" أخيراً بعرض الوثائقي الساخر "الموت لعام 2020" Death to 2020، وصنفته ضمن "الأعمال الكوميدية الغامضة"، وهو من جهود تشارلي بروكر وأنابيل جونز، مبتكري سلسلة "المرآة السوداء" Black Mirror الذي شبّه كثيرون أحداثه بأحداث عام 2020، سواء في الحديث عن السلطة الحيويّة أو سطوة وسائل التواصل الاجتماعيّة أو تحول الآخرين إلى أعداء محتملين.
يستضيف الوثائقي الساخر عدداً من نجوم الكوميديا في بريطانيا والولايات المتحدة، مقدماً تعليقاً على ما شهده عام 2020 من أحداث اختلط فيها الواقعي بالمتخيّل، إذ يؤدي مثلاً صامويل جاكسون دور مراسل لصحيفة "نيويورك تايمز"، وهيو غرانت دور مؤرخ، وليزا كودرو دور متحدثة محافظة لا تؤمن بشيء.
ويسخر الوثائقي من قوّة النجوم، كحالة توم هانكس الذي يقال إنه من فتح أعين الأميركيين على فيروس كورونا الجديد بعد إصابته به.
المفارقة في الفيلم أنه يقدم التاريخ الراهن كحكاية ساخرة، تشمل سلسلة من الأحداث التي هزت العالم التي لا يزال البعض يشكك في حقيقتها. هذه الأحداث قسمت العالم إلى ضحايا وناجين، إلى أعداء وأصدقاء. وهذه التقسيمات جاءت إما بعد أحداث سياسية أو كوارث لم تكن متوقعة، وهذا ما يرسخ حالة عدم التصديق.
فما شهدناه هذا العام ترك أثراً على الجميع من دون استثناء، وهذا ما يرتبط عادة بأفلام الخيال العلمي، لا الواقع المعاش، فسابقاً لم يكن هناك حدث يهدد حرفياً "الكلّ" مثلما شهدنا هذا العام، ولا نتحدث هنا عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بل نشير إلى الوباء والمراقبة التي تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي وفقدان العمل وجدواه، وكأن 2020 عتبة لمستقبل جديد، كل ما قبله ماضٍ نوستالجي صعب المنال.
السخرية في الفيلم وطبيعة التعليقات التي يقدمها الضيوف، سواء الصحافي أو المؤرخ أو المعلق السياسي، تتركنا أمام سؤال مهم: كيف نؤرخ لعالم ما بعد الحقيقة، إن كانت الأطراف على اختلاف طبقاتها ومستوياتها لا تتفق على مسألة واحدة مهما كانت واقعية؟ هذه الاختلافات قد تكون على خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة أو حول جائحة كورونا.
حالة اللا-اتفاق جعلت التأريخ جهدا سياسيا بحتا، وأفقدته قيمته النقديّة، بعدما أصبحت الصور والكلمات غير كافية كوسائط للتوثيق، لا فقط بسبب إمكانيّة تزييفها، بل لغياب أي سلطة قادرة على ادعاء الحقيقة، خصوصاً في ظل هيمنة الشهادة الشخصية كوسيط فردانيّ مشبع بالسياق والمشاعر لكنه غير قابل للتعميم.
وهنا تظهر السخرية كسلاح فعّال، كأسلوب لطرح "الحقيقة العارية" من دون افتراض أنها بحاجة إلى إثبات، إذ يُشار إليها فقط للتأكيد أن هناك ما لا يمكن إنكاره ويكفي تصديقه.
يسلط الفيلم، على لسان شخصياته، الضوء على الهوة العميقة بين "الأصدقاء" و"الأعداء"، وبين الساخرين وأولئك المتمسكين بآرائهم، ويحال السبب بصورة غير مباشرة إلى الأخبار بوصفها أقرب إلى مسلسل تلفزيوني، أو لعبة تختلف قواعد تفسيرها بين اللاعبين والجماهير، فكل فريق يتحرك ضمن فهمه الخاص، وهذا ما يهدد الديمقراطيّة التي تفترض الاتفاق على شكل من أشكال "الحوار".
في الوقت نفسه، تعكس هذه الهوة المأساة الثقافية التي نعيشها، و هي أن المعرفة لا تعني القوة، فأولئك الذين "يعلمون" يتوازون في فعاليتهم مع من "لا يعلمون"، ونقصد هنا المعرفة بوصفها أسلوباً للتغيير وامتلاك "القوة"، سواء كانت شعبية أم سياسية.
تتضح هذه المفارقة حين نشاهد أنصار ترامب الذين لا يزالون مؤمنين بفوزه في الانتخابات الأخيرة، وهنا نتلمس شعرية من نوع ما، فاتفاق جماعة ما على أكذوبة يعكس في جوهره طبيعتنا كبشر بحاجة للإيمان بشيء ما حتى لو لم يكن قابلاً للتصديق، إذ لم يعد هناك مكانة للمعرفة. القوة وشرورها هي المحرك للتاريخ، والمتفرجون إما ضحايا ساخرون أو مؤمنون حتى العمى بهذه القوة.