الموسم الدرامي الرمضاني: ماراثون يستمر 30 يوماً بلا فائزين
يُطلق على موسم مسلسلات رمضان عادةً اسم "ماراثون رمضان الدرامي". إلا أنه السباق الوحيد في العالم الذي لا تعلن نتائجه للجمهور في نهايته. إنه سباق يدّعي كل من يشارك فيه فوزه في المركز الأول، من دون أن يقدم دليلاً على ذلك. ربما لهذا السبب، لا يفضّل بعض الفنانين وصناع الدراما وصف موسم رمضان بالسباق أو الماراثون، لأن هذا يعني وجود خاسرين ورابحين، ويضيف المزيد من الضغوط على الفنانين. في الفن، إن كان ما نراه فعلاً أعمالاً فنية، لا يوجد رابح وخاسر، ولكن ما يغفله أصحاب هذا الرأي أن الصناعة أصبحت قائمة على الأرقام والتقييمات، وأن من حق الجميع أن يعرف نسب المشاهدة الحقيقية للمسلسلات في هذا الموسم.
قديماً، لم تكن هناك حاجة إلى إطلاق وصف سباق أو ماراثون على مواسم رمضان، فلا مجال للمنافسة وسط سيطرة الدولة على الإنتاج الفني. ففي مصر، كانت المسلسلات والسهرات الدرامية والفوازير منحة من الدولة عبر قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري للترفيه عن المواطنين. وتعرض الأعمال القليلة على قنوات التلفزيون الرسمي المحدودة. ولكن، مع تطور صناعة المسلسلات في السنوات الأخيرة، وانتهاء عصر التلفزيون الرسمي، وانتقال النجوم وشركات الإنتاج الخاصة والقنوات ومنصات العرض الإلكترونية إلى صناعة المسلسلات، تحول الأمر إلى سباق بالفعل ومنافسة قوية بين الجميع، بهدف خطف انتباه وإعجاب الجمهور، في عملية تجارية بحتة، وسط انكماش متزايد لصناعة السينما التي كانت تحدد حجم جماهيرية الأعمال والفنانين من خلال حجم الإيرادات.
مع التطور الكبير في صناعة المسلسلات وإطلاق القنوات الخاصة بعد عام 2011، عرفت المواسم الدرامية قوائم الأعلى مشاهدة والنجوم الأكثر طلباً، وتحكم السوق ومعادلة العرض والطلب في شكل صناعة الدراما، خصوصاً في مسألة أجور الممثلين التي كانت تُحدَّد بناءً على حجم جماهيرية أبطال المسلسلات، وتنافست القنوات الفضائية على شراء حقوق عرض مسلسلات هؤلاء النجوم حصرياً للفوز بالإعلانات والإقبال الجماهيري.
نجم عن هذا الجو التنافسي عدة ظواهر جديدة، منها ظهور نجوم جدد ومحتويات فنية متطورة، والكشف عن بورصة أجور النجوم، إذ كانت تنشرها الصحف بشكل اعتيادي. كما ظهرت شركات بحوث الرأي العام ورصد نسب المشاهدة للقنوات والأعمال المعروضة عليها، وكان أبرزها شركة إبسوس الفرنسية التي بدأت عملها في مصر عام 2006، وتزايد تأثيرها مع الانفتاح الإنتاجي والإعلامي بعد 2011، وكانت تقاريرها تكشف إلى حد ما شكل المنافسة داخل السوق التلفزيوني في مصر، وساعدت في ازدهار سوق الإعلانات على الشاشة التلفزيونية، ولكن لم تستمر شركات بحوث الرأي العام طويلاً في مصر، بعد استحواذ الدولة على القنوات الفضائية وشركات الإنتاج بعد عام 2016، وأغلقت "إبسوس" وغيرها في 2017، بعد اتهامات لهذه الشركات بتضليل الرأي العام وخدمة مصالح قنوات أجنبية مثل قناة MBC مصر التي كانت تحتل الصدارة في تقارير المشاهدة، وفرضت السلطات قيوداً على عمل الشركات الخاصة في هذا المجال.
هكذا، غابت المنافسة بعد احتكار السوق الإعلامي والفني في مصر. لذلك، لم يعد هناك حاجة لقياس الرأي العام ونسب المشاهدة، خصوصاً مع احتكار سوق الإعلانات وفرض النجوم والموضوعات الفنية على المسلسلات. ومن وقتها، لا يعرف الجمهور والعاملون في المجال الإعلامي مدى جماهيرية الأعمال المعروضة على شاشة التلفزيون، حتى أن بعض المعلنين يواجهون صعوبات كبيرة في تركيز إعلاناتهم على الأوقات والأعمال الأكثر مشاهدة على الشاشة، وتحول الأمر إلى سر حربي وأمن قومي، وأصبحت الشركات والكيانات الخاصة تعتمد على اجتهاداتها الخاصة وبحوثها الذاتية لتقييم الأعمال جماهيرياً، وبالطبع لن تكون النتائج في دقة الشركات المتخصصة والمحايدة.
أفرزت هذه السياسة عدة ظواهر جديدة على الساحة الفنية، وعلى رأسها الاعتماد الكثيف على مواقع التواصل الاجتماعي، للتدليل على نجاح الأعمال الفنية المعروضة، من خلال التفاخر بحجم تداول أسماء النجوم أو المسلسلات على "تويتر" مثلاً، وتحولت إلى ظاهرة مضحكة ومثيرة للسخرية مع الوقت بسبب ادعاء معظم النجوم أنهم الرقم الأول على "تويتر"، وبسبب معرفة الجميع للخدعة التي تعتمد على التسويق الإلكتروني عن طريق الحسابات المزيفة التي قد تحول أي شيء إلى موضوع رائج.
تحول بعدها الجمهور إلى قياس نجاح الأعمال من خلال مؤشرات البحث على "غوغل"، ولكن هذا السلوك من المستخدمين لا يعني بالضرورة أنهم شاهدوا العمل، أو أنهم شاهدوه على منصته الرسمية وليس على مواقع قرصنة الأعمال الفنية، وتحول الأمر تدريجياً إلى فوضى عارمة في التقييمات، فبعض الصناع والنجوم يزعمون أن نجاح أعمالهم في الشارع أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي، ويدللون على ذلك بملاحظاتهم الشخصية. ولكن، في النهاية، لا أحد يعرف ماذا شاهد الجمهور في موسم مسلسلات رمضان.
وتؤثر حالة الفوضى سلباً على المستويين التجاري والفني، لعدم قدرتنا على فهم احتياجات الجمهور وتفضيلاته الفنية التي تتغير باستمرار، وإحساس صناع الدراما بعدم الحاجة إلى التنافس لأن وضعهم في السوق ليس في يد الجمهور.
يعول صناع الدراما على المنصات الإلكترونية مثل "شاهد" و"ووتش إت" لإنهاء فوضى التقييمات الجماهيرية للأعمال التلفزيونية، وإنهاء حالة التعتيم عليها، لإمكانية حساب حجم إقبال الجمهور على أعمال بعينها بدقة كبيرة أكثر من التلفزيون. ولكن، حتى الآن، ما زالت هناك عدة تحديات تمنع الوصول إلى هذه المرحلة، مثل عدم كشف المنصات عن تقارير المشاهدة للجمهور، وإبقائها سراً داخلياً بها، وقد تتحكم بالمشاهدين عن طريق ترشيحاتها على واجهة المنصة بإعداد قوائم للأعمال الرائجة التي قد تتحكم بها عوامل أخرى، مثل ترشيحات المنصة، ودور المسؤولين في توجيه أعمال بعينها والترويج لها، إضافة إلى عدم وجود ما يثبت صحة رواج هذه الأعمال، في ظل عدم وجود آلية واضحة ومحايدة لقياس نسب المشاهدة، وعدم وجود تنافس كبير بين المنصات وتأثرها بالاحتكار أيضاً حتى اللحظة.