لم تصرح السلطات الألمانيّة عن اسم الموظف الذي باع ثلاث لوحات كانت في متحف Deutsches، بل اكتفت بالحرفين الأولين من اسمه، "إس. كيه"، ليمر الخبر كمفارقة جديدة في عالم الفن، خصوصاً أن العقوبة التي وقعت على السارق، لم تتجاوز السنتين، و63 ألف دولار غرامة، وهي ثمن اللوحات الثلاث التي باعها، كون الرابعة التي سرقها، لم يجد لها مُشترياً.
الملفت في حكاية "إس. كيه"، الذي كان بعمر الـ24 حين قام بالسرقة، أنه استفاد حقيقة من أن كثيراً من الأعمال الفنيّة حبيسة أقبية المتاحف والمصارف، وما قام به ببساطة هو استبدال الأصليّة بأخرى مزيّفة، ليبيع الأصلية ويسد ديونه، ويشتري شقة، وسيارة رولز رويس.
قال المتهم إنه "تصرف من دون أن يفكّر حينها، ولم يعد باستطاعته أن يفسر سلوكه الآن". يبدو هذا الرد جزءاً من البلاغة القانونيّة، ليدفع عنه أي تهمة أخرى. بصورة أدق، ليؤكد على "الندم" الذي اعتراه. هذه البلاغة امتدت إلى الأخبار الصحافيّة؛ إذ أشارت إلى أنه سرق "التراث الإنساني والفني" الذي لا يقدر بثمن كي يعيش "حياة الرخاء".
لكن، هناك رياء من نوع ما في ما يخص هذه الحادثة. ببساطة، الفن يقدّر بثمن، بل هو فقاعة مالية لم تنفجر بعد، حولت كثيراً من الفنانين إلى مليونيرات، وشكلت ملاذاً للمتهربين ضريبياً وغاسلي الأموال، أي أن علاقة الفن بـ"الرخاء" شديدة المنطقية، بل يمكن القول إنها أساس تاريخ الفن: أليست أغلب أعمال المعلمين (دافنشي، مايكل أنجلو... إلخ)، كانت بتكليف من أصحاب الأموال، سواء كانوا ملوكاً أو باباوت؟
المريب في الحكاية، أيضاً، والذي يكشف حقيقة عالم الفنّ، هو رد دار المزادات التي بيعت فيها اللوحات، إذ قالت: "لم نتمكن من تحديد إن كانت هذه اللوحات مسروقة"، ما يشير أيضاً إلى أن عالم الفن مليء بالسرقات الخفية وعمليات البيع والنهب الممنهج، التي ما زالت مستمرة حتى الآن، فالنكتة السائدة تقول إن المتحف البريطاني لا يحوي شيئاً بريطانياً سوى اسمه، كونه مليئاً بـ"كنوز الاستعمار"، فهل هذه أيضاً لم تحدد إن كانت مسروقة أو لا؟ إلى جانب ذلك، نشر المتحف البريطاني، أخيراً، صوراً على الإنترنت، لأشياء تشبه بعضاً من مئات القطع المسروقة من مجموعاته، مناشداً الجمهور المساعدة في العثور عليها. وقد أُعلن في الأسابيع الأخيرة عن سرقة "نحو ألفي" قطعة من مجموعات المؤسسة الثقافية البريطانية المرموقة في السنوات الماضية، بحسب رئيسها جورج أوزبورن، ما أثار فضيحة كبيرة دفعت بمدير المتحف، هارتويغ فيشر، إلى الاستقالة خلال الصيف الفائت.
لنفكر مرة أخرى في نمط الحياة الذي كان يبحث عنه السارق. الرجل اشترى شقّة وسيارة فارهة وسد ديونه. بصورة ما، حرر نفسه من سطوة البحث عن منزل والمواصلات وملاحقة الدائنين. والأهم، أن ما سرقه بالأصل في المخزن، إذ كُشف غياب اللوحات بالصدفة، أثناء جرد المستودع وتقييم محتوياته. هكذا، المتحف نفسه يعلم أنه يمتلك "ثروة"، ولا نظن أن أحداً سيكتشف أن اللوحات المزيفة ليست حقيقية. فلسنوات، بقيت لوحة "العملاق" لغويا على جدران المتاحف، قبل اكتشاف أنها لأحد تلاميذه. ذات الأمر مع لوحات رامبرانت، التي أعلن أنها مزيفة بداية، ثم بعد إعادة التقييم، تم التأكيد أنها له، وليست لتلاميذه. ما نحاول قوله، إن الأصلي والمزيف مساحة مالية ومختلف عليها جمالياً.
اللافت، أيضاً، أننا لا نعلم من زوّر اللوحات. هل هو إس. كيه؟ أم "فنان" آخر مختص في هذا النوع من عمليات النصب والاستبدال. هكذا، قد نكون أمام "مجرم" طليق، قادر على تزوير لوحات رواد مطلع القرن العشرين، بصورة لا تكشفها سوى عين الخبير. فالتفصيل الدقيق الذي كشف التزوير، لا يتعلق بمكونات اللوحة، بل القماش الذي رسمت عليه. الأمر مادي إذن، ويتعلق بالملمس والحجم، والتزوير اكتشف أثناء عملية التقييم، لا المشاهدة الأولى بالعين المجردة، ما يعني أننا أمام فنان تزوير متقن لصنعته. والأهم، لا نعلم كم تقاضى ثمن اللوحة المزوّرة، وهل كان السعر متفقاً عليه مسبقاً؟ أم له نسبة من السعر بعد المزاد؟