يُعتبر "باردو، السجل الكاذب لحفنة من الحقائق" من أهم أفلام المكسيكي أليخاندرو غونثالِث إينياريتو (1963)، في مستويات عدّة. المُثير أنّ الفيلم، المعروض في المُسابقة الرسمية للدورة الـ79 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، لم يفز بأي جائزة. مع ذلك، حظوظه في الفوز بـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (2023)، بعد اختيار المكسيك له للمشاركة في التصفيات الأولى للجائزة، ليست معدومة، ما يُؤهّل إينياريتو للانضمام إلى نُخبة الفائزين بـ3 جوائز "أوسكار".
"باردو" مُصطلح بُوذي تيبتي يُشير إلى الحالة بين الموت والولادة الجديدة. بالإسبانية، يعني "الشاعر"، راوي قصص قديم، أو شاعر غنائي يتلو ملاحم تُخَلِّد المآثر العظيمة. يتناسب التفسيران مع سياق "باردو" وسرده وهدفه، إذْ يُعتَبر قصيدة أو ملحمة لحياة إينياريتو، يُراجع فيها ماضيه وحاضره، وربما مُستقبله، بينما يُشير العنوان الفرعي، "السجل الكاذب لحفنة من الحقائق"، إلى الفيلم الوثائقي الناجح الذي أخرجه بطل الفيلم عن المكسيك.
"باردو" ملحمة سريالية ذاتية مُذهلة، تمتدّ عبر مَشاهِد أحلامٍ واقعية ساحرة، حيث تتحوّل الحقيقة إلى خيال، وبالعكس. يمتزج فيها عبث الواقع بمنطق الحلم، عبر أساليب تقنية أنيقة ورائعة واحترافية جداً. إنّه أكثر أفلام إينياريتو نرجسية وعمقاً وانغماساً في الذات. مع ذلك، الانغماس غير مُتساهل نهائياً مع حياته وشخصيته، التي حاول تكثيفها وتقديمها بقدر اتّسم بالتجرّد والاعتدال إلى حدّ بعيد، بلا نرجسية زائدة أو فاضحة، أحياناً عدّة. فنياً، مهارة صنعة، وصدق فني، وجمال بصري، تغفر الكثير من النرجسية.
إلى ذلك، يثير "باردو" انقساماً شديداً، إذْ يجده البعض مُحيّراً أو مُلغزاً للغاية. تبدو كمية الاستعارات والإحالات والإسقاطات مُتعدّدة الألوان غامضةً وفوضويةً وغير مُتماسكة، في سردٍ دائري يُصيب بالدوار، حيث يتشابك الشخصيّ بالعام والسياسيّ بشدّة. رغم هذا، صيغة الغموض والفوضى تعكس بعضاً من الحياة، وتستحضر تقلّبات لا تنتهي لمشاعر مُختلطة ومُضطربة يختبرها البشر دائماً، في شكل انعكاس ذاتيّ حقيقي، ونرجسية مُتفاوتة. العيب الأكبر فيه صراعه للبقاء على المستوى الفني نفسه، والإيقاع الرفيع، طوال الوقت. وفي الآن ذاته، إطالة أمد سرد لا خطوط فاصلة بين طبقاته الدرامية المُتعدّدة، كان يُمكن تكثيفه واختزاله أكثر، من دون حشو زائد، لم يُضف الكثير أو الجديد.
في "باردو"، عبَّرَ إينياريتو بصدق بالغ عن كل أفكاره ومخاوفه وعواطفه، بسحر من الفُكاهة والقوة والألم والدهشة. كشف عن روحه المرهفة الهشّة على الشاشة، وأفصح بإخلاص عن صراعاته مع الهوية والتراث، وما يعنيه أنْ يكون المرء مكسيكياً مُعاصراً، بصراحة مُثيرة للإعجاب، خاصة مفاهيمه عن الأسرة والحُزن والفناء، حيث يُجسِّدُ بطل الفيلم مراحل عدّة مرّ إينياريتو فيها منذ تركه المكسيك قبل 20 عاماً، أو أكثر.
يبدأ الفيلم بسلسلة ساحرة ومُرعبة من الركض والقفز والتحليق عالياً جداً، فوق صحراء قاحلة، فيما يُشبه الحلم. لاحقاً، مع تكرار اللقطات قُبيل النهاية، نُخمِّنُ أنّها من وجهة نظر سيلفيريو غاما (دانيال خِمينيث كاتشو)، الصحافي المكسيكي المعروف، والمخرج الوثائقي المشهور، بينما يُطارد ظِلّهُ المُنعكس تَحته. المشهد تمهيدٌ بسيط لسلسلة تكاد لا تنتهي من المَشاهِد الحلمية السريالية والعبثية، الجامحة في سحرها وسخريتها وغموضها وسوداويتها. مثلاً، مشهد انتظار المُخرج أنْ تلد زوجته، لكنّ الطفل يقرّر، فور ولادته، أنّ العالم مُرهِق للغاية، فيطلب من الطبيب إعادة إدخاله. في استعادة حلمية لذكرى ابنهما الأول ماتيو، الذي مات أثناء الولادة في المستشفى، وألم فقدانه لا يزال يطاردهما. من هنا، لا يهدأ السرد في التنقّل، وأحياناً القفز ذهاباً وإياباً، بين مزيج من الذكريات والأحلام، للصحافي غاما.
سيلفيريو غاما أول مكسيكي وأميركي لاتيني يحصل على جائزة مرموقة، تُمنح للصحافيين الأميركيين. في المكسيك، يُحتفى به، حيث يعود لمواجهة بعض الشياطين التي لم يدفنها، ولم يتصالح معها أبداً. علاقات مُعقّدة ومُركّبة مع بلد وتاريخ وتراث وبشر. لذا، يفحص تاريخه الشخصي وحقيقته، في خريف العمر وأزمته، حيث يكثر الندم والحسرة والتساؤلات عن الأبوّة والنزاهة المهنية، والأهمّ: ما تعنيه الحياة حقاً لشخص ضائع، من دون إحساس حقيقي بالوطن، والتمزّق بين هويتين وبلدين ولغتين وثقافتين وبيتين.
من ناحية أخرى، غاما محبوب من أصدقاء مُقرّبين، ومن العائلة. لكنْ، لصحافيين معاصرين له شيءٌ آخر في قلوبهم، كشف عنه البعض في حفلة صاخبة أقامها له رفاقه في مكسيكو سيتي. نوعٌ من حسد مُذهل، مُقترن بالاستياء من أسلوبه وتسليعه، في أعماله، الفقر والبؤس المكسيكيين، ومآسي المُهاجرين، وتجّار المُخدرات. كما أنّه يُنتَقَد لأنانيته وانتهازيته وهوسه الذاتي وامتيازاته. هناك شيء من الصِحّة في هذه الانتقادات. إجمالاً، إنّه إنسان غير قادر على التعبير عن الألم الوجودي وعذاباته، من دون تمزيق الآخرين.
في لحظة الانتشاء والانتصار بالنجاح غير المسبوق، تباغته أزمة الهوية. يغرق في حفرة من الذكريات والمخاوف والهلوسات بشأن عائلته ومهنته، والمكسيك نفسها. يتصارع مع انعدام الأمن، والتمزّقات والتناقضات الإنسانية المُضطربة والمُحتدمة فيه، وتزايد ألم وعيه الذاتي بها. يُحاول تفكيك المحطات الذاتية والتاريخية القاسية في حياته وبلده، لفهم حياة ومكان وشعب لم يعد لهم وجود، وفقاً لذكرياته عنهم. أو ربما لم يعرفهم تماماً، أو بقَدرٍ كافٍ. في علاقته المُعقّدة بوطنه، يُمكن للمرء أنْ يشهد رغبة إينياريتو في الاعتراف ببُعده عنه، جُغرافياً وعاطفياً: "لا أستطيع أنْ أفهم بلدي، لكنْ، لا يُمكنني إلّا أنْ أحبّه"، يُجيب سيلفيريو غاما على صحافي، سأله إنْ كان يمكنه فهم الأزمة العنيفة التي تُعانيها المكسيك، وهو يدخل حفلة رقص مُقامة على شرفه، في أحد أكثر تسلسلات الفيلم إبهاراً.
"باردو" مليء باللحظات الفردية الرائعة، والتسلسلات المُذهلة، الصالحة لأنْ تكون أفلاماً قصيرة. مثلاً، تسلسلٌ مُبهرٌ في شوارع مكسيكو سيتي، تتناثر فيه جُثث المفقودين الذين اختفوا بسبب الفقر والجريمة والهجرة، وتجاهلتهم الدولة. مشهدٌ آخر، يواجِه فيه غاما، بشجاعة، شبح والده المسكين، محاولاً أنْ يقول له الأشياء كلّها التي كان عليه قولها وهو لا يزال حيّاً. أيضاً، عندما يأخذ عائلته إلى مُنتجع فائق الرفاهية، حيث لا يُسمَح للخدم بالوجود على الشاطئ؛ أو عندما يشرح لابنه لورنزو (أوكر سانشيز سولانو)، بغضب، أنّهم "مُهاجرون درجة أولى"، ولن يعرفوا أبداً مُعاناة أولئك الذين أُجبِروا على مُغادرة المكسيك في ظروف خطرة، فيواجهه المُراهق بمدى تصويره الزائف لمُعاناة المُهاجرين المكسيك على الحدود، في أحد أفلامه الوثائقية المحبوبة، مُتّهماً إياه بعدم إدراكه تماماً كم هو محظوظ، مُقارنة بهم؛ أو شعوره وعائلته بالإهانة عندما تشاجر مع ضابط حدود وقح، داكن البشرة، يُفترض به أنّ يكون مكسيكي الأصل، عندما ذكَّرَهم بأنْ أميركا ليست، ولن تكون، وطنهم أبداً، في مشهد من مشاهد عدّة تناولت مفهوم الوطن والهوية والجنسية.
هناك أيضاً مَشاهد مُعالجة العلاقات الأميركية المكسيكية المُلتبسة عبر التاريخ، بجرأة سياسية غير مسبوقة. منها، عرض السفير الأميركي على سيلفيريو غاما التخلّي عن انتقاداته لعنصرية البيت الأبيض ضد المكسيك، مُقابل تأمين حوار له مع الرئيس الأميركي؛ أو استغلال الولايات المتحدة التاريخي للمكسيك ومواطنيها، وتعرّض بلده لاحتلال جديد، يراه هذه المرة اقتصادياً لا عسكرياً، بإعلان أنّ شركة "أمازون" بصدد شراء ولاية مكسيكية مشهورة، أو اللقطات البديعة في أسوار إحدى القلاع التاريخية الرائعة، حيث حارب الجنود الشباب الغزاة الأميركيين بكل بسالة، قبل قرن ونصف القرن تقريباً.
من العناصر التي جعلت "باردو" ناجحاً وجاذباً الأداء الكاريزمي لدانيال خِمينيث كاتشو، الذي جسَّد بمهارة أوجه شخصية سيلفيريو غاما، المُعقّدة والمُركّبة؛ وتعبيراته الدالّة على الاشمئزاز الذاتي، والفرح والحزن والحيرة والتهكّم، في كلّ لقطة تقريباً. مُهمّة لم تكن سهلة، خاصة أنّ الفيلم ليس مُباشراً، بل مزيج مُعقّد من موضوعات وأفكار ومشاعر وتأمّلات ومُساءلات، في إطار غير خطي، بل شبه دائري، شبيه بالحلم، ما تطلَّب مهارة مُذهلة لإنتاج سرد كهذا، وإنجاحه فنياً.
أفلام أليخاندرو غونثالِث إينياريتو مُذهلةٌ بصرياً، وطموحة فنياً، دائماً وبلا استثناء تقريباً. إلّا أنّ "باردو" أفضلها من دون شكّ، ومن أفضل ما أُنجِزَ بصرياً عام 2022، بفضل مُدير التصوير الفذّ، الإيراني داريوس خونجي، والإضاءة الفريدة، وزوايا التصوير العريضة، لا سيما عشرات لقطات التتبّع والحركة الطويلة، أو اللقطة الواحدة المُثيرة للخيال، والمُتدفّقة كالحلم. إلى لقطات مُقرّبة غير مُتوقّعة، وتأطير بنسب ذهبية، إلى درجة أنّ هناك لقطات محدّدة بمثابة لوحات فنية من طراز رفيع، ستبقى طويلاً في الذاكرة. بالإضافة إلى عناصر أخرى مُبهرة، لا يشوبها نقصٌ، كالصوت وتصميم المناظر والمونتاج والموسيقى التصويرية.
قدَّم إينياريتو فيلماً رائعاً، وتجربة تُمسك بالأنفاس في لحظات كثيرة. "باردو" ـ الذي سيُعرض تجارياً في صالات محدودة، بدءاً من 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ـ يطرح أفكاراً وآراءً وهواجس وخيالات وانفعالات وهلاوس، نابعة من خيال خصب، وروح هشّة ومُعذّبة، من دون أنْ يكون لديه جديد فارق يُضيفه إلى هذا النوع من الأفلام الذاتية، باستثناء رؤيته البصرية الصادقة فنياً، والمُذهلة جمالياً، لذاتٍ باحثة عن نفسها. مع تقدّمه، خاصة في ثلثه الأخير (174 دقيقة. تعرض "نتفليكس" نسخة مُختصرة منه إلى 160 دقيقة، بدءاً من 16 ديسمبر/كانون الأول 2022)، يبرز السؤال، وربما التذمّر: لِمَ كلّ هذه الإطالة، والتأكيد التكراريّ، والجماليات المجانية؟