"برتقالة من يافا" (2023) لمحمد المغني، الفائز بالجائزة الكبرى الدولية في الدورة الـ46 (2 ـ 10 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة"، محاولة بصرية لمعاينة حالة يُعانيها فلسطينيون وفلسطينيات كثيرون. محاولة تمتلك، سينمائياً، أداوتٍ، يُعبَّر بها عن المرغوب فيه، تلقائياً وببساطة، وبشيءٍ من عفوية تمثيل (حِرفية كامل الباشا واضحةٌ وجميلة).
الحالة تلك تتمثّل بـ"الحاجز الإسرائيلي"، الذي يخترق جغرافيا الأرض، ويُصيب نفوساً وعقولاً وأجساداً بقهر وألم وأذيّة. فأنْ يعلَق فلسطينيّ/فلسطينية على حاجزٍ إسرائيلي، يمنعه جنوده/جندياته من عبورٍ بين مدينة وأخرى، في بلده المحتلّ، يعني أنّ حرباً أخرى تُخاض يومياً، وأنّ موافقةً على عبور تعكس انتصاراً ولو صغيراً، وأنّ الاحتلال يتفنّن، منذ 76 عاماً على الأقل، في ابتكار أنماطٍ من الذلّ والقمع والإهانة، والقتل متنوّع الأشكال.
"برتقالة من يافا" (27 د.) يروي حكاية معروفة لتكرارها اليومي. محمد (سامر بشارات) يريد لقاء أمّه في يافا، لكنّ جنود حاجز قلنديا يمنعونه من العبور، رغم امتلاكه إقامة أوروبية (بولندا). يجهد في الوصول إلى معبر حِزما، لكنّ سائقي سيارات الأجرة يرفضون ذلك، تجنّباً لمشاكل مع الإسرائيليين. وحده فاروق (كامل الباشا) يقبل، إذْ لديه موعدٌ مع من يبدو أنّه رجل أعمال، لإيصاله إلى مكانٍ ما، ولا يريد أي تأخير. في حاجز حِزما، يعلق الثنائي في سيارة تكاد تكون جغرافيا ضيّقة، وعالماً منغلقاً. وهذا رغم أنّ اليومَ سبتٌ، والسبت مُقدّس عند اليهود. يتساءل محمد: "ألن يُفترض بهم أنْ يكونوا (الجنود والجنديات) في منازلهم الآن؟"، فيُجيبه فاروق بعصبيّة: "أنت من يجب عليه أنْ يكون في منزله".
الحاصل في السيارة عاديّ وطبيعي. الانتظار ثقيل الوطأة أصلاً، فكيف إنْ يكن المُنتظِرُ فلسطينياً، والحاجزُ إسرائيلياً؟ قلق فاروق متأتٍ من إمكانية تأخّره في الوصول في الوقت المتّفق عليه، ومن انتزاع السيارة منه. ارتباك محمد ناجمٌ من مسألتين: خشيته، أو خوفه (يصفه فاروق بالجبان، مُضيفاً أنّه كذّاب أيضاً، لأنّه لم يُخبره بمنعه من عبور حاجز قلنديا) من مواجهة جندي إسرائيلي، وتوتّره بسبب إمكانية تأخّره (هو أيضاً) عن لقاء والدته في الوقت المحدّد، إذْ لديهما (والدته وهو) موعدٌ مع أهل من يُفترض بمحمد أنْ يلتقيها لزواجٍ ربما.
يطول الوقت، ولن يتمكّنا من تحقيق المُراد. بانتظار قرار الإسرائيلي، يكون كلامٌ بينهما، بعضه خاص بعائلة فاروق (خمس صبايا يتعلّمن جميعهنّ في المدرسة، تعلّقه بسيارة الأجرة التي تُعيله وعائلته، مرضٌ في القلب، إلخ.). لحظات يُراد لها سخريةً من جندي إسرائيلي (حركات عسكرية. السبب؟ التقاطُ صُور له) لإثارة ضحكة أو متنفّسٍ، تمرّ عادية. ساعاتٌ تنتهي بنتيجة مخيّبة لهما، وهما ينتميان إلى جيلين عالِقَين في حاجزٍ ثابتٍ ودائم: هذا تفصيلٌ يكاد يكون الأهمّ في نصّ محمد المغني. لكنّ برتقالةً من يافا في سيارة فاروق، يتقاسمانها معاً، تجعلهما يضحكان على ما لن يعرفا سببه، أو ربما يعرفانه فيتجاوزانه في عتمة ليلٍ ضاغطٍ.
اشتغالات "برتقالة من يافا" ـ الفائز بـ"نجمة الجونة الفضية" (مسابقة الفيلم القصير) مناصفةً مع "كيف استعدنا والدتنا" (2024) للبرتغالي جونكالو وادينغتن، في الدورة السابعة (24 أكتوبر/تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ غير باهرة، لكنّها مهنيّةٌ تصنع مشهداً إضافياً عن معاناةٍ فلسطينية مع محتلّ غير آبه بأحدٍ أو بشيء.
فيلمٌ قصير عن مسألة جوهرية في يوميات الفلسطينيين والفلسطينيات. هذا كافٍ.