لكلّ مهرجان سينمائي، أيّاً تكن فئته، يومٌ يُحدَّد، في الدورة المنتهية، لافتتاح الدورة اللاحقة عليها. التاريخ يتغيّر، لكنّ اليوم المختار واحدٌ، والاستثناءات تحصل، لكنْ نادراً جداً. "مهرجان برلين" تُفتَتح دوراته السينمائية يوم خميسٍ، وكلّ دورة تُقام في فبراير/شباط. مهرجان "كانّ" يُفتَتح يوم ثلاثاء، ودوراته منظَّمةٌ في النصف الثاني من مايو/أيار. لـ"مهرجان فينيسيا" يومٌ أيضاً، سيكون الأربعاء منذ دورات كثيرة، وذاك اليوم يشهد افتتاح الدورات السنوية، الذي (الافتتاح) يكون غالباً في أحد الأيام الـ3 الأخيرة من أغسطس/آب.
هذه أمثلة عن مهرجانات مُصنّفة فئة أولى. الثبات في مواعيد كل دورة سنوية ضروريّ، فهذا جزءٌ من اقتصادٍ ومنافسة، يمنح كلّ مهرجان مصداقية حضور (المصداقية متأتيةٌ من مسائل أخرى مختلفة، أيضاً). لكنّ نقّاداً وصحافيين ـ صحافيات سينمائيين غير ملتزمين هذه المواعيد، ووجودهم ـ وجودهنّ في هذا المهرجان أو ذاك يُحدَّد وفقاً لمشاغل وارتباطات، علماً أنّ من يلتزم حضوراً سنوياً لهذه المهرجانات، ولغيرها، يُدرك أهمية تحديد مواعيد حضوره قبل وقتٍ طويل، فالعثور على مسكنٍ غير سهل، رغم أنّ هناك منافذ يعرفها هؤلاء. كما أنّ شراء بطاقات السفر مسبقاً أفضل وأرخص. أمّا الذين يحضرون عشية الافتتاح، أو في اليوم نفسه، فغير مشاركين (غالباً) في الحفلة الرسمية، لأنّ الفيلم المختار للافتتاح يُعرض للصحافة في وقتٍ سابقٍ على الافتتاح الرسمي، المحتاج (الافتتاح الرسمي) إلى دعوات خاصة، يندر أنْ يحصل عليها نقّاد وصحافيون ـ صحافيات.
معلومات كهذه معروفةٌ. استعادتها منبثقةٌ من السؤال التالي: أيكون الموعد المحدّد رسمياً "بداية" المهرجان بالنسبة إلى عاملين وعاملات في مهنتي النقد والصحافة السينمائيين؛ أمْ أنّ هناك موعداً أو أكثر، مرتبطاً بـ"أول" فيلمٍ يُشاهَد في هذه الدورة أو تلك (المسابقة الرسمية تحديداً)، ويكون له أثرٌ يسمح باعتباره "بداية" المهرجان؟ أحياناً، يحضر العامل ـ العاملة قبل يومٍ، على الأقلّ، لكنّه يشعر أنّ "بداية" متابعته اليومية حاصلةٌ وفقاً لهذا الفيلم الأول، المُشاهَد في عروض صحافية. فأهمية المعروض أمامه للمرّة الأولى دولياً تصنع ذاك الشعور، إذْ إنّ أفلاماً عدّة، بينها أفلام افتتاح أحياناً، تكون إمّا أقلّ من المتوقّع، أو نقيض المطلوب سينمائياً، أو غير مؤثّرة في عاملين وعاملات في النقد والصحافة.
بعض هؤلاء يُردّد، أحياناً عدّة، أنّ المهرجان منطلقٌ، بالنسبة إليه، من لحظة مشاهدة فيلمٍ مؤثّر، سينمائياً وفنياً وجمالياً ودرامياً، وبعض تلك الأفلام معروضٌ في اليومين اللاحقين على الموعد الرسمي لبدء الدورات السنوية.
هذا حاصلٌ في الدورة الـ74 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، التي تُفتَتح بأول عرضٍ دولي لـ"أشياء صغيرة كهذه" (2024)، للبلجيكي تيم مْيَلان، مساء 15 فبراير/شباط 2024 (تنتهي الدورة نفسها مساء 25 الشهر الجاري). زملاء مهنة يقولون إنّ شيئاً مهمّاً يتضمّنه الفيلم، الذي يستعيد فصلاً أسود من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا ("العربي الجديد"، 19 فبراير/شباط 2024)؛ وإنّ فيه شيئاً سينمائياً جاذباً، رغم أنّ الموضوع قاسٍ وخطر، واستعادته نوعٌ من إدانة مبطّنة، تُحسِن حِرفيةُ اشتغال سينمائي الإفصاحَ عنها مواربة. آخرون غير مسرورين وغير مرتاحين إلى خلوّ النصّ البصري من عوامل جذب، مع تأكيدهم على أهمية القصة، وضرورة إشهارها سينمائياً.
الرأي الإيجابي يعني أنّ "برليناله 2024" منطلقٌ في موعده الرسميّ. الآخرون توّاقون إلى بديلٍ، يعثر عليه بعضهم في "نهاية أخرى" للإيطالي بيارو مسّينا (المعروض للصحافة بعد يومين اثنين على الافتتاح)؛ وهناك من يُعلن ذهوله، الإيجابي طبعاً، من براعة الفرنسي أوليفييه أسّاياس في صُنع سينماه، ففيلمه "خارج الوقت" (أو "خارج الزمن"، وهما ترجمتان حرفيتان للعنوان الفرنسي: Hors Du Temps، الذي يتضمّن تفسيرات مختلفة أيضاً)، المعروض في اليوم التالي على الافتتاح، عميقٌ وقاسٍ في تفكيكه الذات الفردية وكوابيسها وأهوائها ومشاغلها، بينما آخرون يخرجون من الصالة بعد ساعةٍ من بدايته، لشدّة خوائه و"تفكّكه" كفيلمٍ سينمائي، ولطغيان الثرثرة التي تبدو كأنْ لا نهاية لها. بينما "من هيلدا، مع الحبّ"، للألماني أندرياس دْريْزن، موغل في "بكائياتٍ"، يُشحَن بها نصّ يروي أحد الفصول البشعة للحكم النازي لألمانيا، زمن الحرب العالمية الثانية، لكنّ الأسلوب أقرب إلى الميلودراما، التي تكشف بطش النازيين بشيوعيين ألمان، متعاطفين ـ "متعاونين" مع الاتحاد السوفييتي.
هذا كلّه غير متعلّق، بتاتاً، لا بالسينما ولا بالمهرجان، بل بموعد بدء دورته الجديدة. إنّه محاولة لكتابة مختلفة، قليلاً، ولإيجاد مغزى للعلاقة القائمة بين منخرطٍ في مهنة النقد والصحافة، والسينما في مهرجانٍ من مهرجاناتها الكثيرة.
الأفلام الـ4 تلك غير متشابهةٍ، رغم مشتركٍ بين 3 منها ("أشياء صغيرة كهذه" و"نهاية أخرى" و"من هيلدا، مع الحبّ")، يتمثّل بقهرٍ وخرابٍ وألمٍ في نفسٍ وروح وجسد. والقسوة، إذْ تُمارَس من سلطةٍ، كنسية أو سياسية أو عسكرية ـ أمنية، تُشكّل ركيزة أبرز في قراءة ذاك الوحش الكامن في بشرٍ (فيلما مَيْلان ودْريْزن)؛ وتتأتّى، أيضاً، من موتٍ (طبيعي، حادث سير، إلخ)، ينكره فردٌ، فالمُصاب كبير وأليم، والفقدان مؤذٍ، والبعض يحاول إيجاد مساحةٍ، تُعيد المفقود إلى نبضِ حياةٍ، كي يتمكّن من قول وداعٍ أخير لأحبّة وأهل وأصدقاء ومعارف (خارج الوقت).
أنْ يبدأ مهرجانٌ في موعد محّدد رسمياً، أو بفضل فيلمٍ من دون آخر، فهذا غير مؤثّر، سلباً أو إيجاباً، على متابعة يومية لأفلامٍ، تشي معلومات عنها بأنّها منخرطةٌ في قراءة أهوال ومصاعب وانكسارات وخيبات، أكثر من أي شيءٍ آخر. السابق محاولة لكتابةٍ، يُراد لها دخولٌ في مناخ مهرجانٍ، فيه شيءٌ من غليان فرد واجتماع وتاريخ وعلاقات وانفعالات، والغليان هذا يتناقض وبرودة قليلة، في الأيام الأولى للدورة الـ74 لـ"برليناله"، في مناخ المدينة، كأنّ الشتاء القارس منسحبٌ كلّياً، فالتغيّر المناخي كارثةٌ، والتحوّلات الحاصلة سلبياً في العالم تُنذر بالأسوأ.