تنقسم الشاشات التلفزيونية حول العالم لتغطية الحرب الروسية على أوكرانيا، لكن معها تنقسم الروايات. إذ ليست هناك رواية واحدة لما يحصل في أوكرانيا منذ فجر الخميس، بل روايتان رسميّتان، تتفرّع من كلّ منهما روايات أخرى، ضمن حملات دعائيّة واسعة تحكم المشهد. تنشط روسيا بالبروباغندا المدعومة بخطابات رسميّة وإنتاجات إعلاميّة ضخمة، فيما تحاول أوكرانيا بثّ أخبارها عبر صفحاتها الرسمية عبر مواقع التواصل، بينما يجهد مواطنوها لإيجاد ملاجئ، ناشرين المأساة الإنسانية التي لحقت بهم جرّاء مطامع روسيا وغزوها.
على الأرض، تواجه أوكرانيا "ثاني أكبر جيش في العالم"، لكنّ القوة العسكريّة الروسية ترافقها قوة إعلاميّة ضخمة موازية، تنشط منذ أشهر في بثّ دعاية ومعلومات أغلبها تضليليّة تحاول تبرير الحرب، وترفقها بشعارات وتحليلات تجوب الشاشات. وفيما تُقطّع أوصال الأوكرانيين داخل بلدهم، ويزداد الضغط والتهديد لأرواحهم، تسيطر صور الطوابير أمام محطات الوقود والبنوك والسلاسل الغذائيّة، كما الملاجئ، في مأساة يشاهدها العالم عبر الإعلام ومواقع التواصل على حدّ سواء.
ليست هناك مساواة في النقل الإخباري أو في إيصال السرديّة، وليس هناك مجالٌ للتحقق من جميع المعلومات الواردة حول ما يجري على الأرض، لكنّ الأكيد أن روسيا اجتاحت أوكرانيا، وأنّ المأساة الإنسانيّة المترتّبة على ذلك ستكون ضخمة. لكنّ الغرب لعب أيضاً على نشر سردياته الدعائيّة، ففيما تقول الأمم المتحدة أنّ هناك حوالي مائة ألف شخص اضطرّوا لمغادرة منازلهم في أوكرانيا، فيما غادر البلاد آلاف آخرون بسبب الهجوم العسكري الروسي، يظهر في الخطاب الغربي التخوّف من أزمة مهاجرين جديدة. تلعب هذه الرواية، والتي انتشرت مع الساعات الأولى للغزو الروسي، على مشاعر السلطات والمواطنين المتشددين، لتحذيرهم من أنّ "ما حدث في سورية يمكن أن يتكرر مجدداً"، هذا قبل حتى مناقشة خطواتٍ يمكنها أن تضع حداً للعسكرة والحرب، أو كيفيّة مساعدة الأوكرانيين.
في الجانب الروسي، يبدو "النصرُ أكيداً". لا مجال لغير ذلك، فالمشاهد الآتية من أوكرانيا تُظهر "تفوّقاً عسكرياً روسياً"، فيما الإعلام الروسي والمحللون الروس يكرّرون مراراً أنّ "العملية العسكريّة ستنجح وستصل إلى كييف"، مردّدين تبريرات لها: استفزازٌ من الغرب، استفزازٌ من الناتو، جرائم ضدّ الروس في أوكرانيا، النازيّة، اليمين المتطرّف... تُركّز الدعاية الروسيّة على أنّ "موسكو تريد كييف منزوعة السلاح والنازية". ماذا يعني ذلك؟ يقول المحللون الروس الناطقون بجميع اللغات، إنّ أوكرانيا باتت تعجّ باليمين المتطرف والنازية وباتت رأس حربةٍ ضدّ موسكو "ولا حلّ سوى الخطة العسكريّة". تكرّر الدعاية الروسيّة بثّ النصر، ما يوحي بأنّ أوكرانيا لم تقاتل أصلاً، وأن لا مجال لمقاومتها، في خطّة لبث الرعب والخوف والاستسلام في نفوس الأوكرانيين، يصل صداه إلى العالم. ولا تتوقّف الدعاية عند هذا الحدّ، إذ وصل الأمر بمحللين ودبلوماسيين روس أن قالوا إنّ أوكرانيا باتت دولة مستبدّة، وإنّ "الرئيس زيلينسكي الذي كان كوميدياً تحوّل إلى طاغية"، مضيفين أنّ هناك "اعتقالات وسجناً للكثيرين من المعارضين لسياسات كييف". أتت هذه المزاعم الدعائيّة في الوقت الذي كان المنظّم الروسي للإنترنت يهدّد بحجب وتغريم وسائل الإعلام التي تنقل روايةً أخرى غير رواية السلطات الروسية، عدا عن اعتقال المئات من الناشطين الذين نزلوا إلى موسكو ليل الخميس للتظاهر ضدّ الحرب وخيارها.
قوة دعائية ضخمة لروسيا تبثّ حرباً نفسية تزامناً مع الغزو العسكري
على الجهة الأوكرانيّة المقابلة، كانت المشاهد إنسانيّة وعسكريّة على حدّ سواء، إذ انتشرت الصور والأنباء عمّا يتعرّض له الأوكرانيون، كما عن مقاومتهم على الجبهات المتعددة التي اجتاحت روسيا بلدهم منها. تزامن ذلك مع محاولات السلطات الرسمية حشد رأي عام عالمي داعم لأوكرانيا في وجه المطامع الروسيّة، والذي بدا وكأنّه تعويلٌ على ضمائر الشعوب في وقتٍ لم تفعل القوى العظمى الكثير لمساندة أوكرانيا. هكذا أطلقت السلطات حملات إلكترونيّة تدعو إلى التدوين عن العدوان الروسي، وتطالب موسكو بإيقاف حربها، بل وتطالب بحذف حسابات روسيا من "تويتر"، بعد شبه ركود في التحرّك الدولي، فيما تتقدّم روسيا عسكرياً داخل أوكرانيا، ويسقط "مدافعون أبطال" كما وصفهم الرئيس، في تلك المعارك. استخدمت أوكرانيا أيضاً خطاب "النازية" نفسه، معتبرةً أنّ "هذه هي حقيقة العالم اليوم"، ناشرةً صوراً تُظهر "هتلر يمسح على وجه بوتين"، وهو ما فعله أوكرانيون كثر، نشروا علم روسيا وخلفه علم النازية. كما بدا في الحديث الرسمي للرئيس الأوكراني الذي شبّه الاجتياح الروسي اليوم باجتياح ألمانيا النازية، وهو ما ردّده مواطنون عبر حساباتهم ودبلوماسيون نجحت القنوات الإعلاميّة في استضافتهم لمعرفة مواقفهم، على الرغم من قلّتهم نسبةً لعدد المحللين الروس.
واستعرت حرب المعلومات التي بدأت منذ أشهر، تزامناً مع الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، فيما أصرّ كلّ طرفٍ على أنّه يحرز التقدّم الأكبر على الأرض. نشر الانفصاليون المؤيدون لروسيا في أوكرانيا تحديثات كلّ نصف ساعة تقريباً يوم الخميس، تُشير إلى إحرازهم تقدماً عسكرياً. وفيما كانت مقاطع الفيديو تظهر حشداً للقوات الروسيّة وأضراراً تسبب بها القصف الروسي، عدا عن وقوع ضحايا، إلا أنّ حلفاء روسيا اتهموا الإعلام الغربي بالتضليل، وهو ما قامت به الصين، إذ قالت الخارجية الصينية إنّ "القوات الروسية في أوكرانيا ليست غزوًا كما تصفها بعض وسائل الإعلام الأجنبية".
كان للأخبار الكاذبة انتشار واسع منذ الخميس، مع نشر صور ومقاطع من دول أخرى ولمآسٍ واعتداءات أخرى على أنها من أوكرانيا، بينها ما كان لانفجار بيروت أو للعدوان على غزة العام الماضي، وغيرها. وفيما حاولت شركات التواصل الاجتماعي التصرّف بسرعة لكبح جموح انتشار هذا التضليل، لما فيه من تأثير مباشر على المعنويات، إلا أنّ وسائل إعلام متعددة وقعت في فخّ نشرها، فيما حرصت وسائل إعلام أخرى على التذكير بأنّ بعض المعلومات لا يمكن التحقق منها.
وفي الحرب النفسية - الإعلامية هذه، يلعب الإعلام الروسي دوراً كبيراً، ما أثار اعتراضات لصحافيين أدت إلى استقالة واحدة على الأقل. ونشر المتخصص في رصد البروباغندا والتضليل، مارك أوين جونز، تغريدات عبر "تويتر" أشار فيها إلى أسلوب روسيا الدعائي في تغطية الأحداث في أوكرانيا، وكيف تحاول التملّص من المسؤولية. وقال جونز إنّ "سبوتنيك" و"آر تي" (روسيا اليوم) لا تحبّذان استخدام تعابير تشير إلى الحرب، وتبتعدان عن استخدام كلمة "غزو" لتستعيض عنها بتعبير "العملية العسكرية الخاصة"، وهو تعبير استخدمته روسيا في خطاباتها الرسمية. كما أنّها حاولت أن تعظّم حضورها العسكري، وتحجيم أوكرانيا عبر التركيز على نقاط "ضعفها" و"خسائرها"، عدا عن "استسلامها" أو "قلّة روحها القتالية"، ما يعطي فكرةً بأنّ مقاومة أوكرانيا غير مجدية. في المقلب الآخر، سلّط هذا الإعلام الضوء على أنّ الجيش الأوكراني لم يستطِع أن يلحق الضرر بالعتاد العسكري الروسي، فيما هو "شرير للغاية لدرجة أنّه يستهدف المدنيين".
وأضاف أوينز أنّه بعد سقوط مدنيين في الجانب الأوكراني، حاول الإعلام الروسي التأكيد بأنّ قوات بلاده لا تقتل مدنيين أبداً، وأنّها تستخدم أسلحة دقيقة للغاية لدرجة أنّها لا تؤذي إلا المنشآت العسكرية. وعندما يفشل ذلك، تُتّهم أوكرانيا باستخدام المدنيين كدروعٍ بشريّة. وفي ختام البروباغندا تلك، ذكر الإعلام الروسي النازية، قائلاً إنّ النازية واليمين المتطرف هما سببا هذه العملية.