حُدد 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 الماضي، يوم إغلاق أبواب متحف بيرغامون Pergamon Museum أمام الزوار بشكل كامل لمدة ثلاث سنوات ونصف. ويعود السبب إلى أعمال إصلاح في الجزء الجنوبي من المبنى، الذي لن يُعاد فتحه حتى عام 2037، أي بعد 14 عاماً. أما في ما يخص الجزء الشمالي والجزء الأوسط من المتحف مع قاعة بيرغامون، فأعمال التجديد فيها قائمة منذ عام 2013. ومن المتوقع إعادة الافتتاح في ربيع 2027.
وفي هذه المناسبة، صرّحت مؤسسة التراث الثقافي البروسي في برلين قائلة: "هناك حاجة ماسة للتجديد، وذلك بسبب الرطوبة القوية وتأثيرها على الواجهات والأسطح، لقد تضرّر المتحف أثناء الحرب وأعيد ترميمه لكن ذلك غير كافٍ، إلى جانب أن الأجهزة التقنية باتت قديمة جداً".
كما أن أسباب الإغلاق ليست محصورة فقط بالأعمال الترميمية، فهناك مخطط لإضافة جناح رابع سيضم متحف الهندسة المعمارية الأثرية، وسيشيد ممشى أثري سيكون بغالبه تحت الأرض، وسيربط جميع المباني في جزيرة المتاحف بعضها ببعض.
ومتحف بيرغامون هو مجمّع مكوّن من خمسة متاحف يُطلق عليها اسم "جزيرة المتاحف"، وهي: المتحف القديم، ومتحف بيرغامون، ومتحف بوده، والمتحف الوطني للتراث والمتحف الحديث.
وبالنسبة لبناء متحف بيرغامون، فهو يتألف من ثلاثة أقسام تأخذ اسمها من تاريخ محتوياتها، وهي: قسم الشرق الأدنى القديم، وقسم الآثار الكلاسيكية، وقسم الفن الإسلامي.
الشرق الأدنى القديم
منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وسّعت الإمبراطورية الألمانية تحت حكم فيلهلم الثاني نفوذها في الشرق الأوسط، وحصلت على مشروع تنقيب مرموق في بابل؛ إذ كانت في سباق مع كل من بريطانيا وفرنسا اللتين سبقتاها في الاكتشافات وملئهما لمتاحفهما المحلية بآثار عدة من المشرق منذ أربعينيات القرن نفسه.
وفي مارس/ آذار 1899، بدأت أعمال التنقيب في بابل. وبمنهجيات تنقيب منظمة، بدأت تخرج إلى الضوء اكتشافات مذهلة. إلا أن قانون الآثار العثماني كان قد منع تصدير الآثار عام 1884. ومع مرور الوقت، أصدر المسؤول الإداري عن الآثار عصمان حمدي بك تصريحاً يوافق فيه على السماح بنقلها. وكتب عام 1902 رسالة إلى مدير المتاحف الملكية في برلين: "اليوم أستطيع أن أبلغك بأن قيادة متحف الإمبراطورية وافقت على نقل الكسرات المكتشفة في بابل".
وتبعاً لذلك، جُمع في عام 1903 قرابة 399 صندوقاً، احتوت كسر الطوب المزجج ونقلت إلى برلين. رافق المهندس المعماري والرسام والتر أندريه كولدوفاي، كمساعد له، وكانت ألوانه المائية في ما بعد بمثابة نموذج لإعادة بناء بوابة عشتار. ويجمع تاريخ بوابة عشتار بين البحث الأثري والتاريخ الاستعماري الأوروبي والجوع السياسي العالمي للنفوذ والسلطة والإبداع الفني.
وبنى الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني (604 - 562 ق.م)، مجمع البوابات المذهل في بابل. وبعد سقوط الإمبراطورية البابلية في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، بدأت البوابة تنهار تدريجياً، لتختفي بين طبقات التراب، وتبقى منها بعض القطع الصغيرة المتناثرة على السطح، والتي لفتت انتباه المعماري روبرت كولدوفاي الذي أخذ بعضاً منها مع بعض الاكتشافات إلى برلين من أجل إقناع المسؤولين بأهمية الموقع.
كتب أندريه حينها: "كنت هناك في بابل، أَعمل ليلاً ونهاراً لمدة عام كامل، أجمع أجزاء أسد بابل غير المعروف آنذاك. من آلاف القطع، أطبعه أولاً على الورق. كانت الطاولة مغطاة بأصغر شظايا الأسد".
في نهاية المطاف، عُين أندريه عام 1928 رئيساً لقسم الشرق الأدنى، وقد مضى الرجل قدماً في إعادة بناء البوابة أثناء بناء متحف بيرغامون. وفي غضون عامين، أُكمل العمل الضخم الذي نتج عنه 72 مجسم حيوان بارز، وورود كبيرة وأفاريز زخرفية.
وكلفت ثلاث ورش للسيراميك بتقليد ألوان الطوب المزجج البابلي. ونجحت هيلين كورتينغ في تقليد الأصل بإتقان مذهل، إذ جاء في مذكراتها: "يمكن للمرء أن يتخيل مدى الحماسة التي رحبنا بها، نحن الخزافين، بالمشروع، لقد سُمح لنا بحمل القطع الأصلية إلى مختبراتنا، كمواد دراسية لنتتبع سحر الفيروز الغامض والأحجار الكريمة، ولمعان الأزرق الكوبالتي بأعيننا وأصابعنا حتى أدق تفاصيله".
وأكثر من 80 في المائة من واجهة بوابة عشتار مصنوعة من الطوب الحديث الذي أُنتج في عشرينيات القرن العشرين.
ومن القطع المهمة أيضاً في هذا القسم مجسمان من الطوب المحفور بالنقوش، يعودان إلى جزء من واجهة معبد مكرس للإلهة إنانا الذي بناه الملك كارينداش في أوروك (نحو 1410 ق. م). وهما يجسدان آلهة الجبال وربات المياه.
هذا إلى جانب الأختام الأسطوانية من مختلف العصور، والتماثيل الضخمة، والرقيمات المسمارية، وماكيتات لمعابد ولمدن أعيد بنائها بالاعتماد على أساسات كشفت عنها التنقيبات، إضافة إلى قاعة مخصصة لعرض قطع من موقع تل حلف الذي نهبت محتوياته المتنوعة ونقلت إلى برلين بوساطة الدبلوماسي ماكس فون أوبنهايم.
وهناك دُمرت بعض القطع في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها رممت ووضعت في قسم خاص حمل اسم الموقع، في حين وضعت نسخ مزيفة في قاعة في متحف حلب كانت قد جهزت للأصلية. وما زالت نسخ آثار تل حلف تزين واجهة متحف حلب حتى اليوم.
الآثار الكلاسيكية
مذبح بيرغامون أحد أهم القطع الأثرية التي يحتفظ بها المتحف، واستمد اسمه منه. وقد كرس المذبح للإله زيوس.
وأعيد إنشاء الواجهة بأكملها في برلين لعرض أكثر من مائة مجسم لنقوش رخامية أصلية جرى نقلها من الأناضول، وهي تشكل إفريزاً يمتد لمسافة 120 متراً. وتجسد مشاهد معركة أسطورية بين الآلهة الأولمبية على العمالقة.
أهم ما في المذبح ذلك الجزء الذي صور الإلهة أثينا في المركز، والتي تظهر رشيقة وجميلة حتى وهي تقاتل عملاقاً شرساً (تايتان). الطريقة التي قام بها الفنان ببناء هذه المنحوتات أظهرت أثينا والشخصيات التي تقاتلها من كل الجوانب، وكأنهم في مشهد متحرك. ويمثل هذا المذبح الملحمة الأهم في تاريخ اليونانيين.
يحمل المذبح أيضاً مشاهد لمخلوقات لها أجنحة وثعابين ووحوش، وأجساد بشرية نحتت بدقة متناهية، وهو أهم مميزات المدرسة الهلنستية.
واستحوذت الحكومة الألمانية على المذبح الذي كان موجوداً في مدينة بيرغامون. والمذبح نفسه جزء من معبد ضخم. ويقع المعبد على قمة جرف نحت فيه مسرح عد الأكثر انحداراً في العصور القديمة. وهناك مكتبة احتوت مئات المخطوطات المهمة.
وعُثر على مذبح بيرغامون عن طريق المهندس الألماني، كارل لومان، الذي عمل لدى العثمانيين. وأرسل لومان إلى برلين بعض الأجزاء منه، وبناءً عليه، سمح ولي عهد بروسيا بنفسه بإجراء الحفريات. وأقام سكان برلين حفلة تنكرية عند استقبال المذبح.
وعام 1992، طوقت مظاهرات الأتراك متحف بيرغامون مناديةً باستعادة المذبح، إلا أن المذبح لا يزال يحتل الواجهة الرئيسية في قسم المتحف الكلاسيكي، ويخضع لعمليات ترميم منذ عام 2013.
ويضم المتحف الكلاسيكي أيضاً آثاراً مهمةً عدة وفّرت رؤىً وتصوراً لذهنية تلك الشعوب، من خلال ما اختزلته من ملاحم ومشاهد نحتت على النصب والتماثيل أو رصفتها لوحات الفسيفساء أو لونتها رسومات الأواني الفاخرة. ومن خلال دراسة كل ما تحتويه من زخارف ونحت وبناء، استطعنا إيجاد تسلسل واضح للعصور اليونانية والرومانية والبيزنطية.
الفن الإسلامي
يُعَد من أهم المتاحف في العالم التي توثق لتاريخ منطقة المشرق وما عاشته وحفلت به من ازدهار لأنماط الفنون والإبداعات والفكر ضمن الحضارة الإسلامية.
ويضم المتحف نحو 50 ألف قطعة من التراث الإسلامي التي تتراوح ما بين الزخرفة المعمارية والفنون، وصولاً إلى المجوهرات والمخطوطات النادرة في زخرفتها وخطوطها، إلى جانب قطع أخرى توثق تطور الحضارة الإسلامية في منطقة المشرق وأوروبا.
ومن أهم التحف المعروضة واجهة ضخمة من قصر الخلافة الأموية لـ"قصر المشتى"، جنوب مدينة عمّان، الذي بناه الوليد بن يزيد الثاني. ويعد واحداً من أهم إبداعات الفن الإسلامي، التي يعود تاريخ بنائها إلى منتصف القرن الثامن.
وتحمل الواجهة مجسمات لعصافير وحيوانات برية وأسطورية وطيور جارحة ومجسمات لورود كبيرة تتخلل مثلثات، وقد بُنيت الواجهة من الحجر الجيري.
وأهدى السلطان عبد الحميد الثاني الواجهة الجنوبية المزخرفة من قصر المشتى إلى قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني عام 1903.
وإلى جانب هذه الواجهة شخصت مقتنيات أثرية مهمة من سامراء، والتي تدل على أهميتها في التجارة العالمية في القرن التاسع الميلادي. وهناك قبة مسجد قرطبة الأندلسية.
ومن أهم التحف أيضاً غرفة استقبال تعود إلى أسرة سورية من مدينة حلب في القرن السابع عشر، نُحتت من خشب الصنوبر والسيراميك وزينت جدرانها وواجهتها الرئيسية بنقوش وزخارف شملت آيات قرآنية وقصائد من الشعر العربي القديم.
وتنبع أهمية هذه الغرفة، التي وضعت داخل غرفة زجاجية مغلقة، من كونها تمثل أقدم نموذج جرى إنقاذه من بواكير الفترة العثمانية.
ومن المستحيل تخيل التاريخ الثقافي من دون السجاد الشرقي. ويعود تاريخ أول مجموعة من السجاد إلى زمن غليوم فون فوده، مؤسِّس قسم الفن الإسلامي في متحف بيرغامون 1904، وعلى ضوئها أسّس أول قسم للدراسات والأبحاث الخاصة بالسجاد. وكان تدمير السجاد الفارسي في الحرب العالمية الثانية بمثابة خسارة فادحة للمجموعة.
إحدى القطع المعروضة هي السجادة الفارسية من القرن السادس عشر، التي خُصّص رقم الجرد لها عام 1904، ما يجعلها أول عمل فني في المجموعة.
ومن العناصر الأخرى المميزة للغاية سجادة التنين القوقازية التي تعود للقرن نفسه، والتي تظهر عليها أضرار الحروق على كامل طولها البالغ ستة أمتار. ويمكن للزائر عند دخوله إلى هذا القسم أن يشتم رائحة الصوف المتفحم والقنابل النارية والمواد الكيميائية.
ولمتحف الفن الإسلامي أهمية خاصة، وذلك لقدرته على اختصار سنوات من الشرح الطويل والمكثف لتاريخ هذه المنطقة وإنجازاتها المتعددة في مجالات الفن والعمران.
وتجلى تأثير المتحف بشكل بارز في انتشار أقسام الاستشراق وتأسيس شغفٍ طاغٍ للتعرف على خصائص الحضارة الإسلامية في الجامعات الأوروبية عامة والألمانية خاصة.
هذا، وقد أدى المتحف دوراً محورياً في عملية الأرشفة المنهجية للصور والمخططات والخرائط والتقارير ذات الأهمية الكبيرة في توثيق الكنوز الثقافية والطبيعية.
وأسفر البحث الذي أجراه متحف الفن الإسلامي في برلين، ومعهد الآثار الألماني، وباحثون آخرون عن مواد وفيرة تتعلق بمواقع عدة ذات الأهمية لعلم الآثار في سورية، وتاريخ العمارة السورية.
وهكذا، تمت رقمنة هذه المواد بواسطة مشروع أرشيف التراث السوري، وجرى دمجها، جنباً إلى جنب، مع المواد الرقمية الأخرى في قاعدة بيانات الصور. ويوفر الأرشيف الرقمي قاعدة معلومات تمكّن من إعادة بناء الآثار المدمرة والحفاظ على التراث الثقافي السوري.
ومنذ بداية المشروع عام 2013، تلقى الأرشيف أكثر من 270 ألف قطعة، معظمها صور فوتوغرافية من أكثر من 80 جامعة من أنحاء العالم كافة. في سياق المشروع، أضيفت أكثر من 4 آلاف موقع جديد إلى الخريطة الافتراضية لسورية وربطها بقاعدة بيانات.
وفي سياق آخر، تحتفظ متاحف برلين بفيديوهات لباحثين وعلماء شاركوا فيها ذكرياتهم أثناء سنوات عملهم في سورية. ففي فيديو لعالم الآثار الفرنسي، جان كلود ديفيد، يسرد قصة عبوره من أوروبا إلى منطقة الشرق على سطح باخرة قاطعاً هذه المسافة لشغفه بالموسيقى الشرقية.
وفي حلب، تشارك وزوجته أجمل الذكريات، إذ كان منزلهما مركزاً للقاء الموسيقيين الذين شاركوهم السهرات والليالي الجميلة. ومن الشخصيات التي وثقوا جلساتهم وإياها: أبو قدري دلال وفرقته، وصبري مدلل. ولا يكتفي بسرد هذه الذكريات وإنما يتجاوزها للتحدث عن شخصيات سورية عدة، من أمثال المعماري محمود حريتاني وعدنان البني والمعماري الياباني المختص في تخطيط المدن.
ولطالما نظرنا نحن أبناء هذه الجغرافيا إلى هذه المتاحف على أنها نتاج مرحلة طويلة من الغزو الثقافي الاستعماري لبلادنا. مبانٍ ضخمة بنيت أساساتها على سرقة تاريخ وكنوز لها الفضل الأكبر في رسم مشهد واضح عن تسلسل حضاري كثيف عاشته شعوب هذه المنطقة.
إلا أن الأخطر في الموضوع، هو ما بات يتغلغل إلى أدمغة أجيال هذه المنطقة التي راح بعضها يتبنى رؤى مشوهة عن تاريخ هذه الجغرافيا الذي جرت أدلجته والتلاعب فيه.
واليوم، نحن نعيش مرحلة شتات هي الأخطر من نوعها عبر التاريخ، مرحلة تضيع بها الخريطة المكانية لبلد المنشأ. ولسوء حظنا لم نستعد آثارنا من تلك المتاحف، بل نحن من ذهبنا إليها. وهي الآن تجسد البقعة الأكثر سكينة وطمأنينة، فتلك الأماكن باتت تمنح المشتتين في بقاع الأرض بطاقات سفر إلى بلادهم التي غيبوا عن تاريخها زمناً طويلاً، وها هم الآن يعون أهمية تلك البقاع المنهوبة، فيلجأون إليها مصطحبين أبناءهم، ليرسخوا في ذاكرتهم بضع صور عن بلاد نهبت بكل ما فيها.