تضخّم، في الأعوام الأخيرة، عدد الأفلام المرتكزة على بيوغرافيا شخصيات تاريخية ومعاصرة، يعزوه المراقبون إلى تراجع الثقة في قدرة الجماعات على صنع التغيير، مقابل الإيديولوجيا المحتفية بالبطولات الفردية. لكنّ الأفلام المتمحورة حول المسيح سبقت هذا التطوّر بعقود، إذْ لطالما انبرى مخرجون، من جنسيات مختلفة وحساسيات شتّى (تجاوز عددم المائة)، لاقتباس قصّته إلى الشاشة الكبيرة.
هكذا تخطّى المسيح مرتبة الشخصية إلى الأيقونة، حين عَبرت الأفلام المُنجزة عن قصته تاريخ السينما، متّخذة أشكالاً وتنويعات تعكس تطوّر جماليات السينما نفسها، منذ زمن التأثير المسرحي واللوحات الجامدة، مروراً بفترة الملاحم الرومانية، وصولاً إلى الحداثة، التي أعادت النظر في المرجعيات النصية، لتسبر في المسيح الإنسانَ، ثم ما بعد الحداثة، التي جعلت من إرثه وسيلة للتفكير في حاضر العالم، والإشكالات المعاصرة التي يواجهها.
إلى جانب مقاربة الاقتباس وكيفية التعامل مع مصادر القصة المختلفة (الأناجيل الـ4 أساساً)، هناك اختيارات على مستوى التصوّر والإخراج تصنع الفرق أكثر من غيرها في شكل هذه الأفلام، أبرزها تصوّر النوع (دراما، ميلودراما، ملحمة، كوميديا موسيقية، وثائقي، إلخ.)، وأماكن التصوير والكاستينغ. عشرات الممثلين أدّوا دوره، احتفظت الذاكرة الجماعية ببعضهم أكثر من الآخرين، وترسّخت صورة قلّة منهم، حتى أضحت تحدّد تصوّر شخصية المسيح التاريخي في الأذهان.
ولعلّ هذا الرهان، المتمثّل في خلق صورة هذه الأيقونة في أذهان ملايين المشاهدين في العالم، يُفسر حدّة الجدل القائم في الأعوام الأخيرة بخصوص شكل المسيح التاريخي، واختيار الممثل الجدير بتجسيد شخصيته على الشاشة، الذي يمتد اليوم إلى أيقونات أخرى من التاريخ الإنساني، ككليوباترا، خاصة في سياق النقاش الدائر حول الاستيلاء الثقافي.
في غياب إشارات واضحة على شكل المسيح (ما عدا طول قامته) في النصوص الدينية، تأثّرت السينما بالصورة السائدة حوله في الفن التشكيلي، التي تدين بدورها لمصادر قديمة نسبياً، كالأيقونات المسيحية (كَفَن تورينو، أيقونة آديسا، منديل فيرونيكا). صورة تجسّد المسيح انطلاقاً من خصائص تعكس البيئة والثقافة السائدة في فترة ظهوره، أو لأعمال فنية، كـ"رأس المسيح" للتشكيلي الأميركي وارنر سالّمان. لعلّ هذا يُفسّر أنّ الصورة النمطية القوقازية عن المسيح (بشرة بيضاء، شعر أشقر، عينان زرقاوان) أكثر انتشاراً في السينما، بحكم هيمنة الغرب على هذه الأخيرة منذ نشأتها. اعتبار يُفسّر كيف اضطلع ممثل محدود الإمكانات، فنياً، كجيفري هنتر، بدور يسوع الناصري في "ملك الملوك" (1961) لنيكولاس راي، أحد الاقتباسات الضخمة الأولى التي جسدت وجه المسيح على الشاشة، وقطعت مع عادة تركيز الكاميرا على يديه أو كتفيه، السائدة من قبل. الوجه الطفولي للممثل (رغم أنّه كان يبلغ 33 عاماً بالضبط، أي العمر الذي توفّي فيه المسيح) دفع بعض النقاد إلى وصف الفيلم بـ"حكاية المسيح مُراهقاً".
جدل قائم في الأعوام الأخيرة بخصوص شكل المسيح التاريخي
شكّل "ملك الملوك" إحدى الحالات النادرة لفشل ملحمة دينية، من إنتاج "إم. جي. إم"، في شباك التّذاكر. إلا أنّ صيته انتشر بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، ليترسّخ كأحد أهم الاقتباسات الإنجيلية، إلى جانب سلسلة فرنكو زيفيريلّي، "يسوع الناصري" (1977) المنجزة للتلفزيون في 5 حلقات، تبلغ مدّتها كلّها 6 ساعات، عن سيناريو لأنتوني بورغيس وسوسي تشيكي داميكو، انطلاقاً من إنجيل يوحنا، لتعرف نجاحاً جماهيرياً وانتشاراً واسعاً.
اشتهرت السلسلة بكاستينغ رفيع، جمع لورنس أوليفييه بإرنست بورغنين، وكريستوفر بلامر برود ستيغر وجيمس ماسون في أدوار ثانوية. أما دور يسوع فرَسِى على روبرت باول، بعد التفكير في داستن هوفمان كاختيار أول، ثمّ ترشيح آل باتشينو، رغم أنّ طول كليهما لا يتجاوز متراً و67 سنتمتراً. العامل الحاسم في منح الدور لباول يكمن، ربما، في زرقة عينيه، المستجيبة لرغبة زيفيريلّي في أنْ يرى المشاهدون في الممثل صورة يسوع كما هي مجسّدة في الأيقونات المسيحية واللوحات التشكيلية السائدة. عمل باول، بتوصية من المخرج، على ألّا ترمش عيناه، إلاّ نادراً، طيلة تجسيده الشخصية، حرصاً على تأثير نظرته في المشاهدين. اختيار يبرهن على نزعة التضحية بالموهبة والكفاءة في سبيل الشبه الجسدي، التي تطبع اختيارات مخرجين كثيرين لأفلام السِيَر الذاتية.
لكنْ رغم الأداء المتوسّط لباول، أضحت صورة شخصية المسيح، التي أدّاها في "يسوع الناصري"، الأكثر تأثيراً في المخيال والثقافة الشعبيين.
يظلّ "الإنجيل وفقاً لمتى" (1964)، لبيير باولو بازوليني، أكثر الأفلام الإنجيلية حيازة للإشادة النقدية. كأنّ الأمر تطلّب سينمائياً ملحداً وشيوعي الهوى لتحقيق تحفة سينمائية عن حياة المسيح. الاختيارات الراديكالية لبازوليني، النابعة من جماليات الواقعية الجديدة، لعبت دوراً حاسماً في ذلك، انطلاقاً من تصميمه على تصوير الفيلم في منطقة بَزيليكاتا في شمال شرق إيطاليا، بعد زيارته فلسطين بحثاً عن إمكانية التصوير في الأماكن المقدسة (المسجّلة في وثائقي بعنوان "البحث عن أماكن تصوير في فلسطين"، 1965)، لكنّه وجدها غير ملائمة، لأنّها "مُستنزفة تجارياً". قرار إسناد أدوار الفيلم لممثلين غير محترفين مجازفة كبيرة، خاضها بازوليني بغية تمثّل يسوع أقرب إلى روح الواقع، وانتشاله ممّا علق به من أسطورية ناجمة عن 2000 عام من الحكي: "لم أرغب في إعادة خلق حياة المسيح كما كانت، بل أردتُ أنْ أحكي قصته زائد ألفي عام من الحكي المسيحي، التي أضفت أسطورية على هذه السيرة". لفتة رجوع إلى الأصل تجلّت في اختيار الشاب إنريكي إيرازوكي، طالب الاقتصاد ذي الـ19 ربيعاً، لأداء دور يسوع. لحيته الخفيفة، ونظرته الحائرة والحادة، شيئاً ما (بفعل حاجبيه المعقوفين)، علاوة على اعتماد تأثيرات الفن البيزنطي على مظهره وأزيائه، أضفت كلّها على الشخصية مسحة إنسانية قوية، عزّزها تصوير مشاهد عدّة بجمالية الكاميرا المحمولة، وسينما الحقيقة. كما أنّ الأسود والأبيض وضعا مسافة بين المُشاهدين والأحداث، ما حدّ من التماهي، وساهم في تصوّر فريد يناقض تقاليد الأعمال المرتكزة على رهان البحث عن التعاطف مع يسوع.
لعلّ وازع الخروج عن النمطية نفسه دفع مارتن سكورسيزي إلى انتقاء رواية نيكوس كازانتزاكيس، "الإغواء الأخير للمسيح" (العنوان اليوناني الأصلي للرواية: "التجربة الأخيرة"، 1954) ليصنع منها فيلماً بالعنوان نفسه (1988)، عن سيناريو لبول شريدر، واختار أنْ يمنح البطولة لويليم دافو، ضارباً بعرض الحائط تمثّلات الشخصية في المخيال الجماعي. فدافو ممثّلٌ لا يشتهر بوسامته ولا بزرقة عينيه فحسب، بل هناك ضرب من وحشية وجنون كامنين في نظراته، يؤجّجههما شكل أسنانه وفكّه الافتراسي. ممثّل بحمولة يبدو، لوهلة أولى، أنها لا تمتّ لشخصية يسوع بصلة. لكنْ، ما إن نشاهد الفيلم، حتى نقتنع أنّ في كاستينغ دافو وأداءه لقاءً روحانياً خالصاً، مع لمسة العزلة والشكّ والبحث عن الغفران، التي تطبع الطرح، كما أنّ أسلوب تصوير سكورسيزي، كما وصفه أحدهم، "يؤطّر يسوع وحوارييه كأنّهم أسلاف رجال العصابات".
خلّف تمثّل السيناريو العلاقة بين يسوع ومريم المجدلية (بربارا هيرشي) جدلاً كبيراً وانتقادات حادّة من الجماعات الإنجيلية، بلغت أوجّها في فرنسا، حيث استهدفت صالات عدّة، كانت تعرض الفيلم، بعمليات إرهابية.
ماذا ينتج عن اضطلاع مخرج، مؤمن ومعروف بالتزامه العقيدة المسيحية الكاثوليكية، باقتباس قصّة يسوع إلى السينما؟ الجواب حاضرٌ في إنجاز مِل غيبسون "آلام المسيح" عام 2004، مُقتفياً الساعات الـ12 الأخيرة ليسوع الناصري في الحياة، وأحداث اعتقاله ومحاكمته وصلبه. الفيلم صُوّر في المنطقة نفسها التي اختارها بازوليني لتصوير فيلمه. المثير للاهتمام أنّ جيم كافيزل، الذي أدّى دور يسوع، يحمل في الحرفين الأولين من اسمه الاختصار المميز لصيغة "جيزوس كرايست"، وكان يبلغ، بدوره، 33 عاماً عند التصوير. لكنّ المخرج أعطى تعليماته للمكلّفين بالماكياج بتزويده بأنف اصطناعي، وعدسة بنية تطمس زرقة عينيه، لحرصه على إعطائه مظهراً يُحيل إلى شكل الإثنيات المنتشرة في الشرق الأوسط. غير أنّ ملامح الممثل اختفت تدريجياً تحت ماكياج الندوب والدماء التي غطت جُلّ جسده، وفاء لتصوّر مُغرق في الدموية، والتركيز على العذاب الجسدي لاقى انتقادات البعض وإشادة البعض الآخر. كأنّ المخرج أراد تحويل يسوع إلى جرح غائر كبير، يُعبّر عن عمق تضحيته، وحجم الآلام التي تحمّلها من أجل الإنسانية. ورغم تمثّل السيناريو شخصيات من طوائف يهودية عدّة، تختلف في تعاطيها مع أزمة المسيح، اتّهم الفيلم، ومِل غيبسون خاصة، بمعاداة السامية، وهذا لم يمنعه من تحقيق نجاح ساحق في شباك التذاكر.
في سياق يتّسم بتنامي الصوابية السياسية، أضحى اليوم جوهر الحكي، واختيار الممثل الرئيسي للأفلام الإنجيلية ركيزة اهتمام المشاهدين. وبات يصعب أنْ نتخيّل إنجاز فيلمٍ بالتفرّد نفسه لـ"الإغواء الأخير للمسيح"، أو حتى "آلام المسيح". فما بالك بباروديا ساخرة ومنتهكة، كـ"حياة براين" (1979) لمجموعة "مونتي بايثون"، بإخراج تيري جونز، الذي يبدو اليوم كجسم فيلمي غريب من فرط الجرأة التي تنسحب على كل اختياراته، من منح دور براين المحاكي لحياة المسيح لغراهام تشابمان، إلى إسقاطات الحكي على إشكاليات الحروب والتعصّب الديني في الشرق الأوسط المعاصر.
عام 2020، أنجز السويسري ميلو رو عملاً يخلط الأوراق بين التوثيق والتخييل، بعنوان "الإنجيل الجديد"، يؤدّي فيه الناشط الكاميروني إيفان سانيي دور مسيح جديد، يمدّ جسور الوصل مع منبع الإنجيل في المدينة الإيطالية "ماتيرا" (حيث صَوّر بازوليني وغيبسون مشاهد طريق الآلام)، في مجتمع تسوده الفوارق الاجتماعية، وغياب العدالة. يجد "يسوع القرن الواحد والعشرين" بين اللاجئين، القادمين من جنوب البحر الأبيض المتوسط هرباً من الفاقة والحروب، أتباعاً يسعى إلى تحريرهم من عبودية جديدة، تستغلهم في العمل في حقول الطماطم، في ظروف قاسية لا تحترم أبسط الحقوق وشروط الآدمية. هناك تساؤل كامنٌ وراء تصور الفيلم: ماذا كان المسيح ليفعل ويقول إزاء ما يعيشه العالم من إشكالات اليوم؟ بماذا سيوصي أتباعه؟
لعلّ في مقاربة ميلو رو مفتاحاً قميناً بتجاوز معضلة التلقي المتشنّج للأعمال المقتبسة عن حياة المسيح، وشخصيات تاريخية أخرى، فحواه أنّ الأساسي ليس مدى التزام نصّها بـ"حقيقة" تاريخية ما، أو هوية وشكل الممثل الذي سيجسدها على الشاشة، بقدر ما يهمّ طرح أسئلة عميقة عمّا يمثّل إرثها، بالنظر إلى الواقع الذي نعيشه، وكيف يمكن استثارة هذا الإرث من باب الخيال المفتوح وحرية الخلق، بغية إلهام مُشاهدين من أقطار وألوان وأعراق مختلفة بقيم ومبادئ تساهم في صنع عالم أفضل للجميع.