"تخيّل أنّك تتغلب على الجاذبية وتحلّق فوق غابة". هكذا يصف كريغ فوستر، شعوره وهو يسبح في غابة من أعشاب البحر، بالقرب من منزله في جنوب أفريقيا، وينظر إلى الأسفل، حيث المخلوقات الغريبة في القاع.
يقول إنّه كان يحتاج إلى تغيير جذري في حياته، خصوصاً بعدما عانى من الإجهاد بسبب كثرة العمل. فقرر المواظبة على ممارسة الغوص الحرّ والتواصل مع الطبيعة. في غابة أعشاب البحر تلك، يلتقي فوستر بأنثى أخطبوط، تراقبه في البداية من مسافة آمنة، لكنها سرعان ما تدرك أنه ليس مصدراً للخطر. تنشأ علاقة من الثقة بين الأخطبوط وفوستر، الذي يزورها كلّ يوم لمدة تزيد عن سنة؛ يراقبها ويوثق كلّ لحظاته معها بكاميرته. هكذا، أنجز فوستر الجزء الأصعب في صناعة الفيلم الوثائقي (My Octopus Teacher)، أو "تعلّمت من الأخطبوط"، من دون تخطيط أو نية لصناعة الفيلم، الذي أصبح مرشّحاً لنيل أوسكار أفضل وثائقي.
صديقه المقرب، روجر هوروكس، اقترح على فوستر استعمال المواد التي صورها لصناعة فيلم. هوروكس، وهو مصور بحّار وحائز على جائزة من الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون، عمل في سلسلتي Our Planet وBlue Planet II، وله تجارب عدة في هذا المجال. وفي معظم سلسلات الطبيعة الشهيرة هذه، نرى كثيراً من الكائنات البحرية المدهشة، مصوّرة بشكل احترافي. غالباً، نرى فترات محدودة من حياة نفس الكائن.
أمّا فيلم "تعلمت من الأخطبوط"، الذي تبثه شبكة "نتفليكس" فيتتبع نفس الأخطبوط في معظم مراحل حياتها، والتي تمتد نحو 18 شهراً. هناك أيضاً الإنسان الغواص، كريغ فوستر، الذي وجد في معلمته الأخطبوط وغابة أعشاب البحر، العلاج الذي يحتاجه ليشفى من سنوات العمل الشاق خلف الشاشات والكاميرات.
يقودنا فوستر في رحلة تأمل واسترخاء بصوته الهادئ، وفي الخلفية أمواج البحر وصوت الماء. خلال نزهات غوصه اليومية، تمكن فوستر من تصوير غالبية المراحل والأحداث الرئيسية في حياة الأخطبوط. تقول المخرجة بيبا إيرليش إنها أمضت أشهرا في مراجعة المواد المصورة، وقررت لاحقًا أن تتخلى عن وظيفتها لتتفرغ لصناعة هذا الوثائقي. ساعد هوروكس وإيرليش في تصوير ما ينقص من مشاهد لإنتاج الفيلم، ومنها مشاهد فوستر مع الأخطبوط.
ومع وجود كلّ هذه المواد البصرية النادرة، يصبح من الصعب أكثر التخلي عن أي منها. ظل كريغ وأيرليش عالقين في إعداد قصة الفيلم، حتى قرّرا الاستعانة بالمخرج الإنكليزي، جيمس ريد، الذي انضم إلى الفريق في ما بعد، للعمل على بناء القصة التي سيحكيها الفيلم.
ولأنّ ريد لا يعرف تفاصيل القصة، كان من السهل على فوستر أن يروي له بطريقة عفوية تفاصيل قصته في مقابلة يستعملها ريد في الفيلم. يقول ريد في إحدى المقابلات إنّه "نظراً إلى طبيعة فوستر الخجولة، كان من المهم أن تجري المقابلة في مكان يشعر فيه بالراحة". حكى فوستر لريد حكايته مع الأخطبوط وهو جالس خلف طاولة مطبخه في بيته المطلّ على المحيط. يقول ريد: "يشعر الإنسان براحة أكبر عندما يتحدث من خلف حاجز" أي الطاولة في هذه الحالة.
يركّز صانعو الفيلم، الذي حاز قبل أيام جائزة "بافتا" لأفضل وثائقي، على الجانب العاطفي في علاقة الصداقة التي نشأت بين فوستر والأخطبوط. ويكتفي في عرض المعلومات العلمية في سياق إشباع الفضول الذي أثارته الأخطبوط لدى فوستر. في أجوائه الهادئة والتأملية، يتصفح الأخير مقالات علمية عن الأخطبوط، ليتعلم كل ما يحتاجه من أجل توطيد علاقته معها.
الفيلم بمجمله يحكي عاطفة إنسان تجاه كائن برّي رخوي غريب، لا تربطنا فيه عادةً عاطفة كتلك التي نشعر بها تجاه الحيوانات الثديية المنزلية، كالقطة أو الكلب. لكنّنا نرى الأخطبوط تندفع نحو فوستر وتحضنه فيما يداعبها هو، كما لو أنّها حيوانه الأليف. معظم الخلايا العصبية في الأخطبوط توجد في أذرعه، ما يعني أنّ كلّ ذراع قادرة على الشم والتذوق والحركة بشكل مستقل عن الدماغ. ومع أنّ الأخطبوط يغير لونه بحسب لون محيطه، فإنّ هذا الكائن البحري لا يرى الألوان.
بحسب مجلة "نايتشر" العلمية، يُعتقد أنّ الأخطبوط يعرف الألوان من خلال جس ترددات الضوء الخاصة بكلّ لون من حوله. ربطت بعض ردود الأفعال على الفيلم، الأخطبوط بأذرعها الثمانية، بالعنكبوت شارلوت في رواية الأطفال لـ إي. بي. وايت، إذ صوّر علاقة صداقة غير معتادة تنشأ مع العنكبوت التي لا نفكر حينما ننظر إليها أنّها تبدو لطيفة أو جميلة. لكنّ وايت، يجعل منها شخصية رئيسة تستحق محبتنا وحزننا عليها عندما تموت في النهاية، كما تموت الأخطبوط بعد أن تضع بيضها وتمنحه كلّ ما بقي من طاقتها حتى آخر رمق. رواية الأطفال "شباك شارلوت"، لم تكن أول ما خطر ببال الكاتبة صوفي لويس، عندما شاهدت الفيلم. لويس بدت متأثرة أكثر بالرسام الياباني كاتسوشيكا هوكوساي، ولوحاته الإيروتيكية، تحديداً مطبوعته الخشبية "حلم زوجة الصياد" التي تصور وضعية جنسية بين امرأة وأخطبوطين.
للأسف، أثارت تعليقات لويس على تويتر، الجلبة في المنصة. وفي مقالات الكتّاب في "ذا غارديان" وغيرها. قد يبدو الربط بينه وبين العلاقة الفيزيائية مهيناً لكل من هوكوساي وفوستر على حد سواء. قد يلوث هذا الربط ذهن المشاهد ويحرمه من فهم تجربة فوستر الخاصة، في الاسترخاء والشفاء من خلال الغوص داخل المحيط والتفاعل مع كائناته. يقول فوستر في فيلمه إنّه لا يرتدي بدلات الغوص، لأنّه يريد أن يكون ككائن برمائي، جزءاً من هذه البيئة من دون أيّ حواجز تفصله عنها.