يستكمل اللبناني كريم قاسم ما يُمكن وصفه بـ"مشروع سينمائي"، يعتمد على بلاغة الصورة، بالأسود والأبيض أساساً، في بحثٍ بصريّ في أحوال بيئة واجتماع وأفراد. هذا مشغول بحِرفية ممتعة في "أخطبوط" (2021)، الذي يلتقط آثار التفجير المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) عبر ملامح أفرادٍ عديدين، لبنانيين/لبنانيات وغير لبنانيين/لبنانيات، تعكس قهراً وغضباً مكتوماً وألماً حادّاً، ومحاولات معطوبة لخروجٍ مطلوبٍ من صدمة الموت والخراب ("العربي الجديد"، 6 إبريل/نيسان 2022).
بلاغة الصورة بالأسود والأبيض تصنع من جديده، Thiiird، لوحةً تقول مزيداً من صدمة موتٍ وخرابٍ، ناشِئَين من انهيار بلد واجتماع وأناسٍ، يحصل (الانهيار) في الاقتصاد والعلاقات والنَفْس، الفردية والجماعية.
غير أنّ الصمت، الفاعل في "أخطبوط"، ينكسر في جديده هذا (2023)، المعروض مساء أمس الثلاثاء 18 يوليو/تموز 2023، في "المكتبة العامة لبلدية بيروت"، أمام حاجة درامية إلى كلامٍ، يختزل واقعاً أو بعضه، ويعبّر عن حالةٍ أو شيءٍ منها. والكلام، إذْ يكون قليلاً في 94 دقيقة، يُكثِّف لحظات درامية بمنح الكلمات حيّزاً يتوافق وقسوة الألم والتمزّق في يومياتٍ متتاليةٍ، تكاد تتشابه في تفاصيل عدّة. فالميكانيكي المعلّم فؤاد (فؤاد محولي) شخصية ستكون خيطاً درامياً وجمالياً، يُشكّل نواة الحبكة والسرد (سيناريو كريم قاسم ونادية حسّان) والتصوير (طلال خوري). ففي كاراجه (في بلدة خارج المدينة)، يلتقي أناسٌ في زيارة (شرب القهوة وتدخين السجائر أساسيان)، أو لتصليح سيارة، والبوح "شغّال" بوفرة، رغم تقنين جميل للكلمات.
المعلّم فؤاد نفسه قليل الكلام. في نظراته تعبيرٌ أفضل وأعمق من أي كلام. حركته وجلوسه وعمله وعلاقاته بهؤلاء جميعاً، في محيطٍ صغير حول كاراجه، كافيةٌ لمنح النص السينمائي مضمونه المفصَّل وفقاً لانعكاس واقع قاسٍ وراهنٍ أليم في بوح القادمين إليه (هناك سيدة واحدة تأتي، لكنّها تتحدّث بهاتفها الجوّال مع أحدٍ، لتُخبره/تُخبرها أفعال المصارف بحقّ المودعين والمودعات، وتبكي قهراً ووجعاً). هؤلاء، رجال وعجائز وشباب، المشترك بينهم فعلٌ تدميري يومي يعانون سطوته الخانقة والمؤذية، فالانهيار الاقتصادي الاجتماعي (المُعلن فعلياً عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" 2019) غير مُحتمل، وآثاره تُصيب جوانب الحياة والعلاقات، وكورونا يتفشّى (أول إصابة بالوباء في البلد مُعلنٌ عنها في 21 فبراير/شباط 2020)، والتفجير المزدوج يُزيد الألم ألماً، والغضب غضباً، والقهر قهراً.
لا يُصوِّر "ثالث" (ترجمة عربية تقريبية للعنوان الأصلي: Thiiird) مباشرةً هذا كلّه. فالاشتغال منصبٌّ على إبرازه في تصرّفات وانفعالات ومسالك فردية، وبعض الكلام يُساهم في صُنع المشهد، والأسود والأبيض (مع أنّ "اللون" الأكثر طغياناً سيكون الأقرب إلى الرماديّ، خاصةً أنّ غالبية اليوميات تحدث في الشتاء) يرسمان لوحات ملتقطة بكاميرا تتحايل على اللقطة المرغوب في تصويرها، لتحريرها من كلّ مباشرة نافرة، رغم وضوحٍ يظهر في معنى اللقطة وتصويرها.
مثلاً: لقطة للمعلّم فؤاد يتمشّى بين ركام منزل، ويقف قليلاً بين أعمدة منتصبة من دون جدران، فتبدو اللقطة لوحة فنية عن معنى الوحدة والعزلة والبحث عن منفذٍ. تجواله على ضفة نهر، واستلقاؤه على أرضٍ برّية، والتفاتاته إلى الوراء، مسائل متحوّلة، بعدسة طلال خوري ورؤية كريم قاسم، إلى لوحاتٍ صامتةٍ، لكنّها مليئة بتعابير تشي بمناخٍ قاتمٍ، وتوق إلى خلاصٍ، أو بنوع من مصالحة ملتبسة، وسيرٍ إلى نهايةٍ، تختلف لقطتها وأسلوب اشتغالها وألوانها عن الفيلم برمّته.
"يُركّب" المعلّم فؤاد أبواباً خشبية في خلاء طبيعيّ: تلّة تُشرف على مدينة كبيرة (أتكون بيروت؟)، مجرى نهرٍ مثلاً. إضافةً إلى تصويره لقطات عدّة كلوحاتٍ فنية، تبدو لقطات الأبواب لوحاتٍ أخرى، تشي بغرائبيّةٍ لن تكون أخفّ حضوراً ووطأةً من واقع البلد وراهن ناسه. هذا مرتبطٌ بجمالية سينمائية في مواكبة مسارات أفرادٍ، يختفون جميعهم بعد بوحهم، باستثناء قلّة تظهر أكثر من مرة، في أفعال تُزيد من غرائبية العيش والتفكير والشعور، رغم بساطة ما تفعل وتقول: أحدهم يحفر قبراً، فيسأله آخر "لمن هذا القبر"، والإجابة مزيج من مرارة وسخرية وعبثية (نبرة الصوت وحركة الجسد في الحفر) وواقعية قاسية: "لمن يحتاج إليه".
والكاراج (أو ورشة تصليح السيارات) عالمٌ خاص بالمعلّم فؤاد، ففيه حياته ومهنته وعيشه، وعنده قنّ دجاج يبيع بيضه لمن يرغب. يريد سيارة لزيارةٍ، يحصل عليها بعد جهدٍ، فلكلّ رجلٍ سببٌ لعدم إعارته إياها (غلاء البنزين أساسيّ في الرفض). زيارةٌ لامرأة (أهذا حلمٌ يتخيّل مشهده واقفاً أمام مدخل مدرسة، أم واقع غير واضحٍ الحدّ الفاصل فيه بين الوهم والحقيقة؟)، وذهابٌ إلى بحرٍ مع صديق، يمرّ وقتٌ طويل عليه (الصديق العجوز) قبل مشاهدة البحر مجدّداً.
تفاصيل صغيرة يصنع التوليف (ألكس باكري) منها فيلماً، يكشف عمق الهوّة التي يُقيم فيها أفرادٌ وبلد وبيئة واجتماع. هوّة تبدو أقوى من كلّ خلاصٍ منها، رغم أنّ لكريم قاسم قولاً مختلفاً (خاتمة Thiiird)، فيه شيءٌ من التباسٍ متعلّقٍ بمعنى الخاتمة الفعلية للمعلّم فؤاد.