ربما لم يكن فنانو ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 ليتصوّروا في أسوأ كوابيسهم، وهم في خيامهم بميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوماً التي قضوها حتى خلع الرئيس الراحل حسني مبارك، أن إبداعاتهم التي اجتاحت الميدان ستصير بعد سنوات جزءاً مبستراً من أناشيد يجري تقديمها في قصور الثقافة ومراكز الشباب، باعتبارها لازمة لاستكمال احتفاليات يوم الإجازة بمناسبة الثورة وعيد الشرطة معاً.
من المفارقات أن إحدى فعاليات الاحتفال بالثورة، والتي ستقام في عدد من قصور الثقافة، هي محاضرات حول "تأثير الثورات على الاقتصاد"، وورش فنية حول "ثورة يناير بين الواقع والطموحات"، علاوة على ورش حكي ومسرحيات ترسخ قيم الوطنية لدى الشباب وأمسيات شعرية وغنائية تمجد الدولة.
ربما كان يحتاج الأمر للمخرج العبثي رأفت الميهي، ليصور واقع ومستقبل الثورة المجهضة، بطريقة يمكن تمريرها على الرقباء ومسؤولي العرض الحاليين بالفضائيات المصرية التي لم تعد تعرض الأعمال التي أنتجتها الثورة، باستثناء تلك التي تشوه صورتها.
لا يكاد المصريون يعرفون أعمالا أنتجت من الثورة ولها، مثل فيلم "18 يوم" و"تحرير 2011" و"الميدان"، و"نوارة"، ولا أغاني فرقة كايروكي، أمير عيد، نجم الميدان نفسه، بات يغني لمشروع حياة كريمة الذي يقدمه النظام إنقاذاً للمصريين من قاع الفقر الذي كانت تحاول الثورة أن تجعله من الماضي.
وامتلأت شاشات العرض خلال الأسابيع التالية لثورة 25 يناير بعدد من الأفلام والمسلسلات والأغاني المعبرة عنها، وفي مقدمتها مسلسلات مثل "طرف ثالث"، "خاتم سليمان"، "الدخول في الممنوع"، "باب الخلق" وغيرها، وبعدها بسنوات أنتج مسلسل "بنت اسمها ذات".
وامتد الإبداع الخاص بثورة الخامس والعشرين من يناير كذلك إلى الأفلام السينمائية والتسجيلية، والتي تضمنت أفلامًا عديدة، منها فيلم "بعد الموقعة" الذي تطرق لـ"معركة الجمل" التي دارت بين الثوار وأنصار نظام مبارك، وكذلك فيلم "الشتاء اللي فات" وفيلم "الجزيرة 2".
ورغم أن هذه الأفلام نظر إليها كأفلام مقاولات، إلا أن بعضها حقق عدداً من الجوائز في مهرجانات السينما، مثل "يوم سعيد" و"نوارة" و"بعد الموقعة"، من دون أن ينعكس ذلك انتشاراً جماهيرياً واسعاً أو بنسب مشاهدة عالية، سواء لتلاحق الاضطرابات في مصر وغياب الاستقرار السياسي، والانقلاب على الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، ونجاح الثورة المضادة، بشكل سدد رصاصة الرحمة على هذه الأعمال، وحجم من تأثيرها بشكل كبير.
وامتد الإبداع الخاص بثورة 25 يناير إلى عشرات الأغاني التي التصقت بأذهان المصريين خلال أيام الثورة وما تلاها، من بينها "يا بلادي" لرامي جمال، و"إزاي" لمحمد منير، و"شهداء 25 يناير" لحمادة هلال، و"صوت الحرية بينادي" لفريق كايروكي وهاني عادل، و"الميدان" لعايدة الأيوبي، و"يناير" لأنغام، وهي أغان رددها المصريون خلال عامين من الثورة، ثم تلاشت هذه الأغاني من المحطات الفضائية، باستثناء القنوات المعبرة عن المعارضة المصرية التي تبث من خارج مصر.
واجه الإبداع الخاص بثورة يناير، على مختلف مستوياته، سواء أفلاماً سينمائية وتسجيلية، أو مسلسلات، أو أغاني، حملة انتقادات فنية بعد خروجها للنور، رغم موجة الانتشار التي حققتها، بل ولاحقتها انتقادات بأنها ركبت الموجة، ولم يتم إعدادها بشكل مناسب، وسعت للاستفادة من الحدث وتحقيق جماهيرية، سواء في دور العرض السينمائي أو على شاشات الفضائيات، بشكل لم يؤمن تأثيراً كبيراً لهذه الأعمال، وصار بينها وبين الإعلام الرسمي، وحتى في وسط قطاع جماهيري واسع، نوع من الجفوة والتراجع.
غياب النضج
في حديث مع "العربي الجديد"، أكد الناقد الفني محمود قاسم أن الإبداع الخاص بثورة الخامس والعشرين من يناير لم يأخذ وقته في الإعداد، بل جرى ركوب الموجة من عدد من المخرجين والمنتجين، حيث جرى تعديل عدد من السيناريوهات بإدخال مشاهد من الثورة وانتصارها على الفيلم بشكل غير واقعي، بشكل انعكس على القيمة الفنية لهذه الأعمال، وما حققته من جماهيرية.
ومضى قاسم للقول: "حتى الأفلام التي جرى الإعداد لها بشكل جيد، مثل فيلم "يوم سعيد" للمؤلف أشرف توفيق، والتي تعرضت بشكل جاد لحدث الثورة، لم تر النور ولم يتم الاهتمام بها، بل عانت نوعاً من الحصار والتقييد، كون المناخ في مصر لم يعد مؤاتياً لمثل هذه الأفلام التي تعالج أسباب الثورة وأحداثها ومصيرها، وتوارى عمل جاد تعامل بشكل محترم مع هذا الحدث المهم، بالمقارنة مع عدد من الأفلام والمسلسلات التي جرى الانتهاء بها بشكل سريع للاستفادة من الحدث، ومواكبته دون إعطائه الأهمية الكبيرة التي تليق بها".
ونبّه الناقد الفني إلى أنّ الإبداع الفني الخاص بحدث مهم، مثل ثورة الخامس والعشرين من يناير، يحتاج لمعايير فنية خاصة، حيث يحتاج لأعداد كبيرة من الكومبارس وتحريك جماهير، وهي إمكانيات لا تتمتع بها السينما أو الدراما المصرية.
وأضاف قاسم: "الأمر ذاته ينطبق على عشرات من الأغاني التي عبرت عن يناير، حيث كانت كلماتها غير منضبطة ولحنها ليس قوياً، لذا لم تعبر عن الحدث ولم تخرج من قلب محروق، كما جرى مع الأغاني التي عبرت عن حربي 67 و73، بل إنها لم تصل حتى لرتبة أوبريت الحلم العربي، ولم يخرج عمل جماعي قوي عن يناير، لم يكن لمعظم الأعمال تأثير قوي على الوجدان، وجرفها النسيان".
من جانبه، رأى الناقد الفني أحمد سعد الدين أن "تأثير الأعمال الإبداعية التي خرجت من رحم ثورة الخامس والعشرين من يناير كان محدوداً جداً، ولم يرتبط بأذهان الجماهير"، ورأى أنّ السبب يعود إلى أن هذه الأعمال "أنتجت بشكل سريع للاستفادة من الحدث، ولم تأخذ الوقت اللازم لإخراج عمل فني جاد"، معتبراً أنّه "كان من الواجب الانتظار لعدد من السنوات حتى يلمّ العمل بجميع أسباب الثورة ومصيرها ويتحدث عن تداعياتها".
ولفت إلى أن الممثلين والمخرجين والمطربين الذين وقفوا وراء هذه الأعمال، "أرادوا الاستفادة من هذه المشاركة في أيام الثورة، وتحقيق مكاسب فنية ومهنية من وراء هذا الحدث، دون الوضع في الاعتبار معايير الجودة والاعتبارات الفنية، لذا جاءت غالبية هذه الأعمال سطحية وغير معبرة". وأضاف: "التطورات السياسية التي شهدتها مصر، ووصول الإخوان إلى الحكم وما تلا ذلك من أحداث، أدت إلى وأد الحدث، وإهمال الأفلام والمسلسلات والأغاني التي تحدثت عن الثورة، والتي واجهت النسيان والفيتو من قبل الإعلام الرسمي".
ولفت في حديث مع "العربي الجديد" إلى أنّ ما جرى بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران "قد أهال التراب بشكل نهائي على كل الأعمال الفنية التي تحدثت عن ثورة يناير"، حيث "جرى توجيه الأنظار لأعمال أخرى تعرضت للمشكلات التي واجهت مصر بعد الثورة، خصوصاً الأزمات الأمنية والتحديات، ولذلك لم تعد هناك أيّ فرص لمشاهدة هذه الأعمال، والتي كانت تستحق المشاهدة، مثل "الفاجومي" و"خاتم سليمان" و"صرخة نملة" وغيرها، إذ لم يعد المناخ يسمح بعرضها"، إضافة إلى "تواري رموز يناير عن المشهد، ممّا أسهم في دفن هذه الأعمال الفنية".
أسباب الإهمال
تطرقت الناقدة الفنية ماجدة خير الله لبعض الأسباب التي أسهمت في دفن معظم الأعمال التي تناولت ثورة الخامس والعشرين من يناير، أهمها أن الأفلام والمسلسلات والأغاني الخاصة بالثورة "لم تتناول بشكل جاد أسبابها ونتائجها وتداعياتها، بل ركزت على إرهاصات الحدث، ولم تعبر عنه بشكل جاد، ولذا لم يكتب النجاح لأغلبها، باستثناء مسلسل مثل "بنت اسمها ذات"، والذي حقق نجاحاً كبيراً، رغم أن ثورة يناير لم تكن الحدث الرئيس في المسلسل".
وأضافت خير الله أن "هناك العديد من الأعمال التي تناولت ثورة يناير لم تعرض في دور السينما أو وسائل الإعلام، رغم جودتها، مثل "18 يوم" و"بعد الموقعة" و"يوم سعيد"، وشاركت في مهرجانات خارجية وحازت جوائز، إلا أن نصيبها من الانتشار الجماهيري كان محدوداً، وكذلك تأثيرها شبه منعدم، فضلاً عن الكثير من الأعمال التي لم تتعامل مع حدث الثورة بشكل جاد أو تأخذ وقتها في الإعداد".
ولفتت خير الله إلى أن "الموقف الرسمي المعارض لثورة الخامس والعشرين من يناير، ونظرة الكثير من المسؤولين للثورة على أنها حدث كارثي، وقف وراء جميع المشكلات التي عانت منها مصر، بل إنها، أي الثورة، قد أسهمت في إفساد أخلاق المجتمع ورسخت الفوضى"، جعل وسائل الإعلام والفضائيات تغض الطرف عن الأعمال المتعلقة بها.
وانتقدت خير الله، في حديث لـ"العربي الجديد"، "عدم الاهتمام من قبل المخرجين والمنتجين وصناع السينما بحدث مهم مثل ثورة يناير"، مشيرةً إلى أنّ "الحدث كان يتطلب إنتاج عمل كل عام، وليس التجاهل التام لها وللأعمال التي تناولتها، وهو وضع من المتوقع استمراره".