يحدثنا مارك كوزينز، في بداية فيلمه الوثائقي The Story Of Film: A New Generation الذي عرض في افتتاحية الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي الدولي، عن العوالم المتوازية لأفلام الجيل الجديد، التي توسعت وازدادت حِرفية الجمل السينمائية فيها، وبدأت بالتقاط الأحلام وتشكيل اللاوعي كسينما بأدوات الجديدة.
يسأل كوزينز في البداية: ماذا أحببنا في سينما الجيل الجديد؟ وما القواعد التي كسرتها؟ حدثنا أيضاً، عبر سيرة إخراج طويلة، عن مخرجين كأورسون ويلز، والعديد من المسلسلات الوثائقية الطويلة، مثل The Story of Film: An Odyssey المؤلف من 15 حلقة بطول 900 دقيقة، بالاستناد إلى أحد كتبه الثلاثة الذي يحمل العنوان نفسه.
يركّز الرجل في فيلمه الجديد على التحوّلات والقفزات التكنولوجية، التي أدت إلى تغيرات جذرية في التكوين السينمائي. وعلى الرغم من أن ملاحظاته شخصية، فإن خبرته الممتدّة لأعوام طويلة، واستخدامه مقاطع من 97 فيلماً، تسهّل عليه إيصال ما يريده، فهو من يصوّر ويحرّر ويعلّق على أفلامه.
ينطلق في القسم الأول، ليتفحّص شكل الفيلم الجديد، وكيف توسّعت لغته وتجاوز الحدود التقنية. بدأ بربط مثير للاهتمام ما بين فيلم "جوكر" (2019) كطوطم للكبار، وفيلم "فروزن" (2013) كطوطم للصغار. وعقد التشابه في مشاهد إطلاق الذات بحرّية بلا قيود. يأتي السرد للكوميديا بعرض مشاهد من فيلم PK الصادر عام 2014، ويمثل أحد أكبر التحولات اللونية في السينما المعاصرة، وفيلم أوغندا الكوميدي Crazy World الذي سخر من هيمنة هوليوود، ليتوقّف عند فيلم P'tit Quinquin للمخرج الفرنسي برونو دومون، على أنه الأشد حرفية وكوميدية، رغم أن مخرجه هو صاحب أكثر الأفلام واقعية في زمننا.
بحث في الجديد الذي قدمته السينما بعلاقتها مع الجسد، وبعض الحدود التي أزالتها السينما في تصوير جسد الرجل كـ O Ornitólogo، وقلب الأدوار الجندرية ليصبح الرجل كجسد موضوعاً للتبجيل والتعذيب، وركز على Xxy عواصف مرحلة المراهقة وتحول الجسد للممسوس المقدس.
يعتبر الأكشن النوع الأكثر انتشاراً في عصرنا، فباستخدامه لمنهج المقارنة والتشبيه يظهر مارك كوزينز أن Mad Max: Fury Road إخراج جورج ميلر يدين لمشهد تحطم سكة القطار لباستر كيتون في The General؛ فكل ما في فيلمه مصنوع يدوياً. عدلت بعض المشاهد بتقنية CGI، وأزيلت خطوط الأمان للممثلين، وما تبقى مشاهد حقيقية من انفجارات وتحطيم إلى المباني والسيارات، فكان المقياس كمتوسط 2700 لقطة لكل ثلاث ثوان.
تطرّق أيضاً إلى أفلام الرعب، التي استلمت اليابان إصدارتها في بداية القرن، فتوسعت لاحقاً لتكون ذات هوية عابرة مع تعميق قواعد هيتشكوك للرعب، ومزج موسيقي بين الكلاسيكية والإلكترونية، يتبعه مونتاج عالي الدقة. تتداخل خلال العرض لقطات لأشخاص يغلقون أعينهم يسقطون في حالة من البطء والأحلام، هرباً من واقعنا المُتسارع إلى الخيال، فالسينما كالجسر بين الواقع والأحلام، الروائية منها التي تنطلق من النص وتنتهي إلى الخيال، والوثائقية التي تؤرّخ ما حدث فتنتهي إلى الخيال بعد المونتاج.
يدقّق المخرج على قسم الأفلام البطيئة ذات الارتباط العميق بالسينما الإيرانية، ليؤكد أن أفلام البطء ليست أفلام السباحة في الدراما، وقد تكون مبنيّة على الإحساس ببطء سرعة الزمن في مكان ما، كغرفة ضيقة، كما في فيلم An Elephant Sitting Still للمخرج بو هو الذي انتحر قبل عرضه الأول، ويعتبره كوزينز أنه الأفضل في نوعه.
هذه المجادلة حسية بقدر ما هي فكرية، تساهم فيها جميع الأفلام لتعكس مواقف المخرجين والصناع من المجتمع والاقتصاد والفلسفة والسياسة والعالم، لينظر أخيراً لما بعد الحاضر على شكل الفيلم في المستقبل، وكيف أن محرك السينما الرئيسي كان الشغف والابتكار؛ فيُقَدّم الجزء الثاني من الوثائقي، أُسُس أحدث التطورات في صناعة الأفلام من ناحية التكنولوجية، وبماذا ساعدت، كتقنية التقاط معالم وتفاصيل الوجه في Planet Of The Apes وإزالة الشيخوخة رقمياً في فيلم The Irishman، واستخدام الهواتف المحمولة في التصوير لزيادة الواقعية، وتقديم فرص لأناس أكثر ليخرجوا أفكارهم.
يطرح أيضاً قضية الطبيعة السينمائية للواقع الافتراضي (VR)، ويتطرّق بشكل أساسي إلى صعود منصات يوتيوب ونتفليكس التي قدمت لنا أفلاماً تم تجاهلها تماماً من قبل التيار التجاري السائد، وأشكالاً جديدة من السرد، كتجربة التحكم اليدوية بسير أحداث الفيلم في Bandersnatch: Black Mirror، ومن خلال وصفه الذي يضفي تفسيرات جديدة للمشهد يكمل مارك قسم الأفلام الوثائقي فيربط بين فيلمي "إلى سما" إخراج وعد الخطيب، وإدوارد واتس مع The Pearl Button من إخراج باتريسيو غوزمان، من جهة تشكيل وجهة النظر من عيون الضحايا، فأمام الكاميرا وجهة نظر المخرج فقط وخلفها جميع وجهات النظر المحتملة.
من البديهي معرفة أن ياساجيرو أوزو هو المخرج المفضّل لدى كوزينز، كما أن لديه شغفاً كبيراً بصانعي الأفلام الإيرانيين. وكان ما أثار الجدل في المهرجان أن يختار مارك فيلم Hard to Be a God إخراج أليكسي جيرمان كأفضل فيلم لهذا الجيل، وهو الفيلم الذي دفع كافة المعايير الفنية إلى مكان جديد حسب قوله. يضاف أن زوايا الرؤية التي شَكل المخرج من خلالها أفلامه كشخصيات، منحت المُشاهد إيقاعاً درامياً نفسياً متماسكاً وسلساً.
في النهاية، تبقى هذه الزوايا والمقاطع أسلوباً لشرح لغة هذه الأفلام كعناصر ضمن نوعها، لتشكل مع عناصر أخرى التكوين العام لرؤية المخرج، فيكون تمايز فيلم عن آخر متركزاً في جودة صياغة هذه العناصر ضمن السرد والتأريخ، وليس كحدث مبني عليه، مع الحفاظ على أهمية تقريب السمات المذكورة من مخيلة المتلقي.