نحن ندين بالكثير لجلال الدين الرومي (1207-1273). هذه "النحن" هنا، فإنما تنطق باسم الإنسانية جمعاء، وليس فقط الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي. الصُعد التي أثّر بها الفقيه الفيلسوف الشاعر بالفكر وبالفن كثيرة. تُعد الموسيقى واحداً منها. ومواضع ذلك التأثير بدورها أيضاً عديدة، تشمل الفلسفي الجمالي، الأدبي الشعري، وحتى العملي التطبيقي، أي الممارسة الموسيقية من غناء وعزف ورقص، سواءً في زمن "مولانا"، أو من خلال الطريقة "المولوية" التي انبثقت عنه، انطلاقاً من مدينة قونية في الأناضول، حيث قضى جلّ عمره.
قد رأى صاحب ديوان المثنوي في الموسيقى سبيلاً إلى المعرفة الروحية، ومجالاً حيوياً للتعبير عن الشوق إلى القُدسي. سبيلٌ كان معروفاً لدى ثقافات شرقية أخرى، تحديداً الهند. ثمة أيضاً سياقات حقبوية ميّزت عصره عن عصرنا؛ لئن يسود اليوم نظامٌ معرفيّ عَلماني المرجعية، تُشكّل المادّية فيه مظلةً للفكر، كوّنت الروحانية في العصور الوسطى جوهراً للفكر، وذلك في ظل نظام معرفي سائد، كان في الأساس دينيّ المرجعية. عهدئذٍ، اكتسبت السُبل الخِبروية التي سلكها الباحث عن الحقيقة، ومن بينها الموسيقى، مدارات فكرية عبَرت به بين كليّ الفلكين الأرضي والسماوي.
يكتسب الاستماع إلى الموسيقى، أو "السماع" خصوصيةً لدى "مولانا"؛ إذ يُنظر إليه فعلاً تأملياً خالصاً، وليس محض استجابة حسية؛ إنه بمثابة رؤية قلبية، بحكم أن الموسيقى مُنتهى الشعر، يتحرر فيها الوزن والإيقاع حتى من المسميّات. بذلك، فإن لفعل السماع القدرة على إسقاط حُجب الكلمات عن الكلّي. فيما تنبّه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى مسألة احتجاز وعي الإنسان داخل قفص الكلام عندما قال: "اللغة بيت الوجود"، كأني بالرومي يرى الموسيقى خلاصَ الوجود من حبس اللغة حين يقول: "في بيت العُشاق، لا تتوقف الموسيقى. الجدران مصنوعةً من الأغاني، والأرض ترقص".
لكي تَشُقّ الموسيقى أمام المُريد الباحث عن الحقيقة سبيلاً إلى المعرفة الروحية، لا بد للاستماع أن يكون إنصاتاً، وللسماع أن يصير استغراقاً. عندها، فقط، يُمكن للتجربة السمعية أن تؤمن للنفس خلوةً تأملية. حيال هذا الشرط، نقل جلال الدين الرومي عن رفيق دربه في العشق الإلهي، شمس الدين التبريزي، أن قال له: "ضع نفسك في السماع، ابحث في نشوته عمّا لن تجده في الحياة الدنيا"؛ إذ إنه فقط عندما نستغرق في الموسيقى، ونهبها أنفسنا كلّيةً، ننتشي بها حقاً ونكتشف عبرها أن للحياة صداً أعمق، وأن للوجود مداً أرحب.
لعله ذلك ما أشار إليه، بمنطق النظام المعرفي السائد اليوم، الباحثان في علم الأعصاب جوشوا بنّمان وجوديث بِكر، في دراسة مشتركة لهما بعنوان "النشوات الدينية: المستمعون بعمق"، نُشِرت سنة 2009، تناولا فيها الآليات العصبية والدماغية، التي تتولّد عند الاستماع إلى الموسيقى. فعند درجة الاستغراق في الاستماع، تم رصد مُحفّزات كيميائية مثل الدوبامين يولّدها الدماغ، تترافق مع مشاعر جيّاشة، قد تقود إلى تناوبٍ ما بين النشوة والوجد. فأما النشوة (Ecstasy) فثمرة الخلوة التأملية، وأما الوجد (Trance) فثمرة الهِزّة الطربية، ومعهما تتبدّل حال الوعي. عندها، بحسب الشيخ التبريزي (على لسان الرومي): "يفقد المرء مدلول المادة، ولا يشعر بشيء في ذاته سوى القدسي".
لحظة انبثاقها من الخلوة التأملية، تُشكَّل الهزة الطربية والانفعالات الجسدية المرافقة لها، ضمن رقصات طقسية ذات مضمون ابتهالي، تحمل في إيماءاتها وحركاتها رموزاً تصل الأرض تحت أقدام المُريدين بالسماء فوق رؤوسهم. إنها رقصة "المولوية" نسبةً إلى مولانا. كما أشار المعماري غازي مكداشي في كتابه "وحدة الفنون الإسلامية"، إلى أن الدوران حول الكعبة، أثناء طواف الحجاج، هو "فعلُ تحريكٍ للثابت"، أي الكتلة، حتى الانعتاق من المادة، كأني بدوران المولوي على عقبيه تحريكٌ للثوب، حتى الانعتاق من الجسد.
في بحثها المعنون "أبواب مشرعة عبر الحواس على واقع آخر"، الذي نشرته جامعة أوكسفورد سنة 2007، تتحدث عالمة الأنثروبولوجيا لين هيوم (Lynn Hume) عن الكيفية التي يقود بها رقص المولوي إلى الارتقاء نحو "حقيقة عليا"؛ إذ تصف قائلةً: "عندما يصفو الذهن من جميع الأفكار التي تشتّته، فيبقى مُركِّزاً على النقطة الأشد تمركزاً في الجسم، يُصبح المرء أقرب إلى القدسي، قابلاً للامتلاء بالحضرة الإلهية". عندها، وبتعبير هيوم: "تُمحى الأنا، فيتجلّى الحق".
لم تقتصر تأملات جلال الدين الرومي على أثر الموسيقى، باعتبارها سبيلاً إلى المعرفة الروحية، بل تعمّقت في دور الأدوات التي بين يدي الإنسان المبدع للألحان. تحدّث مولانا عن الانسجام بوصفه حاصل امتزاج ألوان الآلات الموسيقية المختلفة التي عُرِفت في عصره والبقعة الجغرافية التي عاش فيها، وعن طبائعها الصوتية نَظَم توصيفات شعرية.
في ديوان "الكبير"، تحدث عن الدوتار والطنبور، وهي آلات وترية من فصيلة البُزق، فقال: "دع نفسك تُغذّي روحك بآلات ذات وترين وثلاثة". وعن الناي قال: "من رأى سُمّاً كالناي، ترياقاً كالناي، صديقاً كالناي، حبّاً كالناي". وعن دور الإيقاع في إحداث الصدم الشعوري، قال في ديوان "شمس تبريز": "في الموسيقى، ثمة سرّ يكتنف الإيقاع. إن أفشيته، لانقلب العالم رأساً على عقب".
انقلاب العالم رأساً على عقب، هنا، إنما يوحي بأن ثمة مظهراً مغايراً ومعنى مختلفاً للعالم، سيتبدّى لنا عند الاستماع إلى الموسيقى. المسألة تبقى عند مولانا، عن أيّ استماع نتحدث، وعن أيّة موسيقى؟ وهنا تكمن العبرة والدرس. إذ لا بد للاستماع أن يكون مدفوعاً بشغف وشوق إلى المعرفة الروحية، ولا بد للموسيقى أيضاً أن تكون نتاج ذلك الشغف وذلك الشوق. لئن كانت الموسيقى وسيلة تعبيرٍ عن الذات، فإنها حيال الذات التي أبدعتها، كوعاءٍ لا بد وأن ينضح بما فيه. سواءً أكانت الذات المبدعة، أو المستمعة، دينية المرجعية أم عَلمانية، إن شغلتها الأسئلة الوجودية، وجذبتها المعرفة الروحية، فإنها سترى في الموسيقى أحد السبُل إلى الحقيقة. وإن لم ينته بجلائها، يبقى صداها الذي قد يدنو بنا إليها، إن دأبنا على السماع بعمق.