لا تتوقف جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي، في قطاع غزة، عند القصف وقتل الفلسطينيين وتهجيرهم، إنما يذهب أيضاً إلى ممارسة عمليات نهب ممنهجة على الممتلكات والقطع الأثرية، إلى جانب الأعضاء الحيوية للشهداء.
وثق جنود الاحتلال عمليات النهب التي أقدموا عليها، سواءً على الحواجز المُجهّزة لعبور النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه (حاجز صلاح الدين)، أو بنهب المنازل التي تركها أصحابها أثناء القصف المباشر والمستمر على بيوتهم في كل مدن القطاع. في حين أشار مكتب الإعلام الحكومي، في بيان له، إلى أن جيش الاحتلال سرق ما تقدّر قيمته بـ25 مليون دولار من عملياته الجارية في غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول حتى اليوم.
منذ النكبة
"أحضرت بعض الأشياء الجميلة من صفد. وجدت لنفسي ولسارة بعض الفساتين المطرزة الجميلة، التي قد يتمكن خيّاطنا المحلي من إصلاحها. ملاعق، مناديل، أساور، طاولة دمشقية وطقم من الفناجين الفضية الجميلة. أحضرت سارة بالأمس أيضاً سجادة فارسية رائعة. لم أرَ شيئاً بهذا الجمال من قبل. يمكن لغرفة معيشة كهذه أن تحتفظ بمكانتها حتى بين أغنى الناس في تل أبيب".
كانت هذه السطور تعبيراً عن غنيمة خاصة لجندي إسرائيلي إبان التطهير العرقي الذي تعرضت له مدينة صفد خلال النكبة (1948).
يستبيح الاحتلال الإسرائيلي كل ما هو فلسطيني منذ عقود. ولم تكن حالات النهب في قطاع غزة أثناء العدوان الأخير هي الأولى، بل لهذه الأفعال منهجية اجتماعية وسياسية بدأت منذ عام 1947، حسب ما ورد في كتاب المؤرخ الإسرائيلي آدم راز، "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948". كشف راز عن تورط المدنيين والجنود الإسرائيليين في عمليات نهب ممنهجة ضد الفلسطينيين؛ إذ كان لهذه العمليات أبعاد سياسية ساهمت في تشكيل المجتمع الإسرائيلي. دُمجت هذه الأفعال في السياسة الخارجية والداخلية لدولة الاحتلال، وذلك حين سمحت هذه الأخيرة بممارسة عمليات النهب الفردية، مروّجةً لنهج سياسي يسعى إلى تكوين جمهور إسرائيلي معني في تفريع البلد من سكانه العرب.
الآثار أيضاً
يمثّل النهب، بوصفه فعلاً سياسياً واجتماعياً قائماً في دولة الاحتلال، شرعيةً لكل جنود الاحتلال بما يقومون به في قطاع غزة منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة عليها. ظهرت صور وفيديوهات لجنود يسطون على منازل الفلسطينيين في غزة، ويستولون على الأموال والذهب والمجوهرات، إضافة إلى اقتحامهم لمبانٍ تحوي قطعاً أثرية.
في 21 يناير/ كانون الثاني، نشر مدير هيئة الآثار الإسرائيلية، إيلي إسكوزيدو، منشورات على صفحته على "إنستغرام". تحدث فيها عن وصول الهيئة لقطاع غزة، بهدف تفقُّد هذه الأثار التي تُعرض الآن في مجلس الكنيست الإسرائيلي، حسب ما كتبه في أحد تعليقاته المصاحبة لصورة العناصر التي نهبها الاحتلال من غزة.
يظهر الفيديو الذي نشره مدير الهيئة مخزناً من التحف والقطع الأثرية، محاطة بجنود الاحتلال الإسرائيلي. يتعارض هذا النهب بشكل مباشر وصارخ مع اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح - لاهاي 14 مايو/أيار 1954. تنص هذه الاتفاقية بمجملها على حماية الممتلكات الثقافية في أوقات النزاع أو الحروب. وقعت دولة الاحتلال على هذه الاتفاقية التي بموجبها يترتب على الاحتلال العمل بكل جهد لازم لحماية الممتلكات الثقافية والمحافظة عليها. ويشير الباب الثالث (المادة 14) من الاتفاقية، إلى حصانة الممتلكات الثقافية من الحجز والاستيلاء والغنيمة.
حذرت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، الخميس، من أن اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مستودع الآثار في غزة انتهاك خطير واعتداء على التراث الفلسطيني ويخالف الاتفاقيات الدولية. جاء ذلك في بيان للوزارة بعد اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي مستودع الآثار في غزة الذي تشرف عليه المدرسة الفرنسية.
وشددت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية على أن "اقتحام الاحتلال الإسرائيلي مستودع الآثار في غزة انتهاك خطير واعتداء على التراث الفلسطيني، ويخالف الاتفاقيات الدولية كاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، واتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح". وأدانت الوزارة اقتحام "المستودع الذي يحتوي على آلاف القطع الأثرية المهمة التي عثر عليها أثناء التنقيبات الأثرية على مدار السنوات الماضية، والتي تمثل جزءاً مهماً من تاريخ قطاع غزة وفلسطين بشكل عام".
وطالبت "كافة المؤسسات والمنظمات الدولية بالتدخل الفوري لوقف العدوان، وحماية تراث فلسطين الوطني الذي يعتبر جزءاً من تراث الإنسانية". وأكدت أن "مئات المواقع والمعالم الأثرية تم تدميرها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، وهذا يدل على أن الاحتلال ماضٍ في منهجية تدمير تراث فلسطين الذي يعتبر شاهداً على حق شعبنا بهذه الأرض"، كما طالبت قوات الاحتلال الإسرائيلي بـ"وقف عدوانها فوراً على قطاع غزة، ووقف استهداف المواقع التراثية في فلسطين". وشددت في الوقت نفسه على أنها "تتابع مع الجهات الدولية كافة الاعتداءات والجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال على مواقع التراث.
سرقة الغيتار
"حسيت حالي وقتها زي الولد الصغير: بدي ياها تبعتي". هذا ما قاله حد أعضاء فرقة صول باند الموسيقية، حمادة نصر الله، عن غيتاره الذي شوهد محمولاً بين يدي الجندي في جيش الاحتلال، متان كوهين، في فيديو له وهو يعزف به فوق أنقاض أحد المنازل في منطقة السودانية شمال قطاع غزة.
"الغيتار أجاني قبل 15 سنة كهدية من والدي تشجيعاً لي على موهبتي الموسيقية، وهي آخر هدية تلقيتها من والدي"، قال نصر الله، مضيفاً: "ليس غريباً على الاحتلال اقتحام المشاعر والذكريات، وبالتالي ليس غريباً عليه سرقة غيتار".
تشير كلمات نصر الله هذه إلى ما ذكرناه سابقاً، حول اعتماد النهب كفعل منهجي. في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى السيطرة على أملاك الغائبين؛ إذ تمثّل عموداً من أعمدة منهجية الاحتلال. "أملاك الغائب" هو قانون سنّه الاحتلال في 20 مارس/آذار 1950. ويعرّف القانون كل من هُجّر أو نزح أو ترك حدود فلسطين التاريخية حتى نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1947، لأي سبب كان، على أنه غائب. هذا يعطي الحق لسلطات الاحتلال بالحيازة على ما أطلقت عليه "أملاك الغائبين". يمثّل هذا القانون مرجعية لما يرتكبه جيش الاحتلال الآن في قطاع غزة. فسيطرته على أملاك النازحين هي أيديولوجيا سياسية يمتلكها كل جندي في هذا الجيش، وكل فرد في المجتمع الإسرائيلي.
نشر أحد جنود الاحتلال فيديو يوثق عملية سرقة لصندوق لادخار الأموال من داخل منزل مدمّر في مدينة خانيونس جنوب القطاع. كما نشر جنود آخرون صوراً ومقاطع فيديو لقطع مجوهرات تعود لفلسطينيات من غزة، تعرّف أصحابها إليها صدفة. في حين يحذف الجنود في العديد من المرات هذه الفيديوهات. في بعض الحالات، علّق أصحاب هذه المقتنيات على هذه الفيديوهات؛ إذ أشارت علياء النجار في تعليق على الفيديوهات: "أنتم لصوص"، ليسارع الجندي بحذف الفيديو. توثيق الجنود لمثل هذه الصور ونشرها، ليس سوى تجسيد لعقيدة النهب لدى هذا الجيش، ولانتهاكه لخصوصية الإنسان الفلسطيني، واستمتاعه بالنيل منها.