بهدوء، وعلى الهواء مباشرةً من مدينة لاس فيغاس الأميركية، مضى حفل توزيع جوائز غرامي لهذا العام، من دون صفعات، أو إهانات أو زلات وعثرات، والتي أمست العلامة المميزة لقرينه من هوليوود؛ حفل توزيع جوائز الأوسكار. الإشارة هنا إلى حادثة تهجّم الممثل الأميركي، ويل سميث، على زميله ومواطنه الكوميدي كريس روك.
قدم حفل توزيع جوائز غرامي، نجم البرنامج السياسي الساخر على قناة كوميدي سنترال، "العرض اليومي" (The Daily Show)، الجنوب أفريقي الشاب، تريفر نواه (Trevor Noah). قد حاول الأخير جاهداً، أن يبثّ الحياة في أماسي، ما فتئ ألقها يخبو مع الوقت؛ فالجيل الجديد، جيل زِد (Gz)، صار يُقيم في عالم آخر. ينهل موسيقاه من معين الإنترنت ومنصّات السوشيال ميديا، ومن خلال شاشة هاتف ذكي، بحجم راحة يده، وهو يجلس على مقعد حافلة أو حديقة.
أما الأبهة والبهرجة، التي دأبت شاكلة تلك الحفلات على عكسها إلى مشاهد التلفزيون المسترخي على أريكة، تعرض أمامه كبار شخصيات الإنتاج الفني، بمكياج فاقع ونظارات شمس براقة وتستمر لساعات من الزمن؛ فهي تبدو بأحسن الأحوال تمسّكٌ يائس بتقليد بائد، لن يُنعشه سوى نزال قد ينشب على الخشبة، أو حضور الرئيس الأوكراني من خلال رسالة مسجلة، يقف على أعتاب كنيسة معتمة، يناشد أهل الفن بأن يغّيّروا ما بأهل السياسة. ليعقبه مغني السول والآر أند بي، جون ليجند، يؤدي على آلة البيانو أغنية مهداة إلى أوكرانيا بعنوان "حرّ" (Free).
عتمة من نوع آخر، خيمت على أجواء الحفل، جرّاء الرحيل المفاجئ لقارع طبول فرقة "فو فايترز" (Foo Fighters)، تيلور هوكينز (Taylor Hawkins)، الذي ولأجل مآسي القدر، كان قد دُعي مسبقاً إلى المنصة، ليس ليعزف فقط اثنتين من أغاني الفرقة، هما "إضرام نار" (Making a Fire) و "بانتظار حرب" (Waiting on a War)، وإنما ليتسلم جائزتين عنهما، لأفضل أغنية روك وأفضل أداء لموسيقى روك. خسارةُ هوكينز، حدت بأيقونة جيل زِد، بيلي آيليش، أن تكرم ذكراه، وذلك بارتداء قميص عليه صورة عازف الدرامز، وهي تُغني واحدة من أفضل أغاني العام الفائت "أسعد من أي وقت" (Happier Than Even).
قرينة آيليش، ابنة جيلها وحاملة همومه وهواجسه، أوليفيا رودريغو، كانت محط أنظار وأسماع حفل غرامي ومن تابعه. سبعة ترشيحات، كلها ضمن فئات الجوائز الرئيسية، كأفضل فنان صاعد، وأفضل ألبوم، وأفضل أغنية وأفضل تسجيل للعام.
خلافاً لبيلي، توحي أوليفيا أكثر بأنها أيقونة مُصنعة وفق المعايير الـ غرامية (من غرامي). غير أنها، أيضاً، أو مُنتجوها ومُسوّقوها، باتوا أكثر وعياً بحقيقة أن العالم أخذ يقبع في مكان آخر، غير الذي يحتضن غرامي ومؤسساتها الفنية والربحية.
من جهة، تقدم رودريغو الصورة الصقيلة التي طالما تميّزت بها، كواحدة من نجمات الصناعة الفنية بصيرورتها التقليدية، لا سيما وأنها خبرت الظهور التلفزيوني منذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها.
بينما، من جهة أخرى، تؤكد الفتاة اليافعة بالمقابل، على عنصر الهشاشة (Vulnerability)، الذي صار أخيراً بمثابة تقليعة العصر المفهاهيمية Conceptual؛ لفظ على كل لسان، خصوصاً بين أوساط الشباب الغربي الليبرالي، الذي بات يشعر بشيء من الحرج حيال رخائه واسترخائه، ومزيد من القلق إزاء تبدل الظروف الاجتماعي-اقتصادية، التي كانت قد وفّرت لجيل آبائه في ما مضى كل من ذلك الرخاء وذاك الاسترخاء.
حصيلة ذلك، التوليف الحذق والصادق على ما يبدو، بين كل من الصناعة الفنية والهشاشة الجمعية، تبثها ظاهرة فردية مُبدعة لجهة كل من حسن الغناء وجودة الأداء، جلبت لرودريغو عن جدارة ثلاث جوائز: أفضل فنان صاعد، وأفضل أداء لأغنية من جنس البوب، عن أغنية "رخصة قيادة" (Drivers Licence) والتي غنتها بصورة حيّة خلال فقرات الحفل، إضافة إلى أفضل ألبوم غنائي عن "حامض" (Sour).
بعيداً عن عالم الوحوش الغرائبي الذي احتفلت به أغنية الهيفي ميتال الشهيرة زمان الثمانينيات، "666" لفرقة "أيرون ميدن" الإنكليزية، أتت أغنية "777"، لثنائي Silk Sonic، لتحتفي بحقبة الهيدونية (اللذّوية) التي ميّزت مظاهر الحياة الأميركية في مدينة كـ لاس فيغاس، حيث أجواء المقامرة والمجون والمكيفات المتنوعة، من كحول ومخدرات.
بأزياء تذكّر بموضة السبعينيات، ذروة الحياة الهيدونية، وقمة أمجاد المدينة الجنوبية الثرية الدافئة والساهرة، قدّم الفريق خليطاً من الروك، استدعاءً لهيئة ونبرة أعلامه، كـ جاك براون وبرينس، مضافاً إليه قليلاً من الهيب هوب بحلة الثمانينيات الكلاسيكية.
بالنسبة إلى شريكيّ الثنائي، آندرسون باك وبرونو مارس، واللذين يمضيان على هامش الحفل إقامة فنية في لاس فيغاس، كانت النتيجة مرضية تماماً. إذ حصد فريقهم، Silk Sonic، جوائز غرامي الأربع التي كان قد ترشحّ لها: أغنية العام، وتسجيل العام، وكل من أفضل أغنية وأفضل أداء لفئة جنس الـ آر أند بي.
أما اللقطة الأشد إشراقاً ولفتاً للانتباه من بين مجمل أحداث الحفل، لعلها كانت الكلمة التي ألقى بها عازف البيانو Batiste قائد الفرقة الموسيقية المصاحبة لبرنامج "العرض المتأخر" (The Late Show)، الذي يقدمه الإعلامي ستيفن كولبرت.
فعقب تسلّم الموسيقي القدير، ذي الباع والخبرة الطويلة جوائزه الخمس، بعدما رُشّح لإحدى عشرة منها، وفي إشارة لمُجمل ما تُمثّله غرامي كمؤسسة وصناعة، قال: "لا يوجد هناك أفضل موسيقي، أو أفضل فنان أو أفضل ممثل. إذ تبقى الإبداعات الفنية محكومة بذائقة محض شخصية. كل ما هنالك، هو أنه يتسنى لها أن تؤثر في الناس عند إحداثية زمنية على مسار حيواتهم، حين يكونون بأشد الحاجة لها".
ليس ما قاله بابتيست مُجرّد نقد نافذٍ رقيق يوجهه إلى الجهات التي تمنح الجوائز وترعى حصدة الجوائز. وإنما رؤية دفينة لجوهر الفن والعمل به؛ إذ إن الحقيقة هي أن ما كل ما يُبدعه الفنان، يبقى ذا طبيعة لامعيارية، لا تُحسب ولا تُقاس، وإنما تُحسّ وتُعاش. يلعب فيها المُتلقي، بتركيبته النفسية وبيئته الاجتماعية، الدور المُكمّل والمُشكّل. وذلك هو لُب الأمر، شاءت لجنة التحكيم في غرامي، أم لم تشأ.