55 خطوة فقط تفصل المبنى، الذي أُقيم فيه منذ 5 أغسطس/آب 2021، عن "متحف البراءة"، في شارع "تجُكُر تجُمعه" ("الجمعة العميقة" كترجمة حرفية لـ Cukur Cuma). 55 خطوة فقط، أمشيها في أيامٍ عدّة كلّ أسبوع، قبل أنْ أنظر إلى المبنى، متأمّلاً شيئاً منه في كلّ مرّة، أو متغاضياً عنه مرّات ومرّات. لكنّي أحجم عن دخوله، لحجّةٍ يقول بها معارف مختلفون: "عليك بالرواية أولاً". لكنّ الرواية غير مبنية على المتحف فقط، ولا المتحف يرتكز عليها فقط. العملان، اللذان تزامن اشتغال أورهان باموق عليهما (الرواية صادرة باللغة التركية عام 2008)، يُكمل أحدهما الآخر، فالمتحف يضمّ أدوات وتفاصيل خاصة بقصة حبّ، ينشأ بين كمال الثري وشابّة فقيرة، في سبعينيات القرن الـ20 في إسطنبول. هذه الأدوات والتفاصيل مذكورة في الرواية، كما هو معروفٌ.
في فترة إقامتي في ذاك الشارع، المكتظّ بمحلاّت تتراوح بين معارض فنية وأشغال "أنتيكا" ومقاهٍ قليلة وفندق واحد، أبقى خارج المتحف، مُتحسّراً على نسيانٍ يلمّ بي قبيل سفري، فيحول دون وضع الرواية، المترجمة إلى الفرنسية عام 2011، في حقيبتي. أشعر بضيقٍ، إذْ أعرف أنّ الغرفة التي سأقيم فيها قريبة من المتحف، والرواية موضوعة أمامي عند تجهيز الحقيبة. هناك ما يُغمض عينيّ عنها، فأنساها. أحاول قراءة ترجمة عربية لها، منشورة على موقع قرصنة، سأهرب منها سريعاً، خوفاً من أنْ أُصاب بصدمة الترجمة العربية، إذْ يندر أنْ تكون الأخيرة مُمتعة وجاذبة.
الشارع يطول قليلاً، ويصعد بالمارّة إلى أكثر من اتجاه في منطقة "بيوغلو"، إنْ يأتوا من جهة المبنى الذي أُقيم فيه. يُخبرني صديقٌ، مُقيم في الشارع نفسه، أنّ الحيّز هذا مليء سابقاً بفنانين وفنانات، يُغادرونه قبل عامين أو أكثر بقليل، لرغبة لديهم في حيّز آخر. الغاليريهات باقية، ومحلاّت الـ"أنتيكا" أيضاً، تلك التي يُخرج أصحابها ما فيها إلى الرصيف، كلّ صباح، لعرضها أمام المارّة، ثم يُعيدونها إلى الداخل كلّ مساء. هناك من يُمدّد بعض السجّاد على الطريق، تاركاً إياه تحت أقدام المارّة وعجلات السيارات القليلة، التي تمرّ فيها. المنازل السكنية كثيرة، كالقطط التي تتنزّه بحرية تامة. الأزقّة الضيّقة، المتفرّعة منه، قليلة. امرأة عجوز تمضي معظم نهارها أمام نافدة منزلها، تنظر بعينين متعبتين (أو هذا ما توحيان به) إلى ما يحصل في زقاقها المطلّ على شارع المتحف. عجوز آخر، في الشارع المقابل، يجلس أمام نافذة غرفته، ساعاتٍ طويلة كلّ يوم. منزله، في الطابق الأول، يُطلّ على غرفتي. أسأل. يقول لي أحدهم: "هذه عادة عجائز كثيرين. لكنّ السبب غير معلوم. ربما لانعدام أي مهنة لديهم. أو ربما لانتظارٍ يُتقنون عيشه بصمتٍ، ولعلّهم غير عارفين أصلاً ماذا ينتظرون، أم أنّهم يعرفون فلا يقولون".
التردّد يمنعني من دخول المتحف. أيكون عليّ فعلاً أنْ أقرأ الرواية أولاً؟ لن أعرف إجابة شافية. لكنّي أبقى خارج المتحف، منتظراً قراءتها. هذا يُحيل إلى تساؤل شبيهٍ: هل يُستحسن أنْ تُقرأ رواية، مقتبسة إلى فيلمٍ، قبل مشاهدتها سينمائياً؟ أم أنّ المُشاهدة أولاً أفضل، أو ضرورية؟ العجز عن حسم سؤال "متحف البراءة"، بين الرواية والزيارة، غير مُختلف عن حسم سؤال القراءة والمُشاهدة. المغامرة وعيشها كفيلان بالإجابة، فالمغامرة تعني تجاوز أعرافٍ وثوابت وتقاليد، وعيش المغامرة تجربة تُضاف إلى وعيٍّ وتُغذّيه. قراءة رواية، قبل مشاهدة فيلمٍ مقتبس منها، مغامرة معنية بعلاقة انفعالية وعقلية وذاتية بنصٍّ مكتوب، تُتيح للقارئ إمكانية اختراع صُور سينمائية منه، ستصطدم (إيجاباً أو سلباً) بمُشاهدة ما يخترعه مخرجٌ/ مخرجة، باقتباسه الرواية نفسها في فيلمٍ، يُترجِم علاقته بها.
لـ"متحف البراءة" ميزة تختلف عن سؤال القراءة ـ المُشاهدة. يُقال إنّ فيه أشياء مرتبطة بأفرادٍ ومشاعر، وببيئة وأناس، وبتاريخ وذاكرة، وباجتماع وسلوكه، وبحكاياتٍ ووقائع وأساطير. هذه حاضرة في الرواية، كما يُقال أيضاً. رغم هذا، يحول التردّد إزاء فعل المغامرة وعيشها دون اقتحام الخطّ الفاصل بين القراءة والزيارة، على نقيض ما يحصل في مسألة القراءة ـ المُشاهدة، إذْ تغلب المُشاهدة أولاً، أحياناً كثيرة. التردّد يمنعني من شراء بطاقة دخول إلى متحفٍ، أشعر برغبة في زيارته، لكنّي أبقى خارجه.
لاحقاً، سأتحاشى المرور قرب المتحف. هناك أزقّة أخرى توصلني، وإنْ صعوداً أقسى، إلى أمكنة أبغي تمضية وقتٍ فيها كلّ يوم. سأحاول أنْ أزيل عن نفسي ثقل السؤال والتردّد. في غرفتي، تمرّ ساعات في كتابةٍ وقراءة. للوقت المتبقي أمكنةٌ تتفرّع من "استقلال"، وأخرى تمتدّ في "جيهانغير". حانة النبيذ (Solera) تقع في منتصف شارع "يَني كارسي" (سيارات جديدة)، الصاعد بي إلى "استقلال"، من جهة بعيدة عن "متحف البراءة". بالقرب منها مكتبة صغيرة، تبيع لوحات وأشياء عتيقة وصُوراً وبطاقاتٍ وكتباً، وبعض الكتب قديمٌ، ولغاتها تركية وإنكليزية وفرنسية. العجوز، صاحب المكتبة، يمضي نهاره في القراءة، ويستقبل زائريه بابتسامة هادئة. آلة حاسبة قديمة وصغيرة تبقى معه، لتحديد ثمن ما يُشترى. لن أعثر بين المقتنيات على نسخة فرنسية من "متحف البراءة"، بل على La Violence Et La Derision، لألبير قصيري، بطبعة فرنسية صادرة عام 1993، وعلى غلافها الداخلي نصّ يكتبه بخطّ اليد، باللغة الفرنسية، من يرغب في إهداء هذه النسخة إلى صديقٍ، قبل وصولها إلى المكتبة، ثم إلى غرفتي.
أغادر إسطنبول. لإقامتي فيها راحة منشودة، سأفقدها حتماً. بيروت تنهار أكثر فأكثر. الضروريات مفقودة أو يصعب الحصول عليها. مكتباتها القليلة ترفع أسعار كتبٍ ومجلاّت، وقلّة منها مستمرّة في بيع القديم، بأسعار خيالية. لن أتمكّن من تحصين نفسي بشيءٍ من "براءة" أورهان باموق، ومن ابتسامة صاحب المكتبة، الذي سيبقى اسمه مجهولاً لي، لعدم معرفتي اللغة التركية، ولجهله أيّ لغة أخرى غيرها. ربما سيبقى معي "عنف" قصيري و"سخريته". ربما أقرأ "متحف البراءة" في بيروت، رغم كلّ شيءٍ سيئ فيها. ربما أحسم التردّد في مرّات أخرى. ربما أستجيب دائماً إلى نزعة المُشاهدة قبل القراءة. ربما أعود إلى إسطنبول، ذات زمنٍ.