"خارج الموسم"... ساعات تمرّ في غرفة واسعة بسرير بارد

01 يونيو 2024
آلبا رورفاتشر وغيّوم كاني في "خارج الموسم": أداء أقوى من السرد (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "خارج الموسم" فيلم يجمع بين الإثارة وخيبة الأمل، يتبع نمط ستيفان بريزي بتقديم شخصيات بسيطة ومعقدة، مع مفاجآت غير متوقعة تخرج عن المألوف.
- يركز الفيلم على موضوعات الصدفة والتحول الشخصي من خلال شخصية ماتيو، الذي يواجه تحولات مصيرية بعد لقاءات غير متوقعة في بلدة ساحلية.
- على الرغم من الأداء المميز والتصوير الدقيق، يعاني الفيلم من ثغرات في السيناريو والتوجه الفني، لكنه يبقى مثيرًا للاهتمام بتناوله العميق للعلاقات الإنسانية والتحديات الوجودية.

"خارج الموسم" (2023)، الفيلم العاشر للفرنسي ستيفان بريزي، مُرتقبٌ ومُخيّب للآمال. مع أنّ كل ما يجذب في أفلامه مُتوفّرٌ فيه. لكنّ توهانه في مسارات فجائية ومرتجلة ورخوة ومضجرة، وهذا غير معهود في أعماله، يُثير دهشة وتساؤلاً عن مغزاها، وعن وجهة جديده. لا تجذب أفلامُه، من لقطاتها الأولى، بسبب لغة بصرية استثنائية، بل بفضل شخصياتها البسيطة في ظاهرها، والحسّاسة والهشّة في تعابيرها المرتبكة وعباراتها المتردّدة ومواقفها الحائرة، وفي حركتها في المكان والزمان. أفلامٌ صغيرة لكنّها عظيمة. تأسر بما تبثّه من أجواء رقيقة، تطفح بمشاعر تتحرّر شيئاً فشيئاً.

في "لست هنا لأكون محبوباً" (2004)، يجذب الوجه المكتئب للشخصية (باتريك شيني) بذاك الملل الطافح، والاستسلام المرتسم في عينين متعبتين لكاتب عدل خمسينيّ. إنسان ضجرٌ ومتعبٌ، لم يعد ينتظر شيئاً من الحياة، إلى أن يصادف ما يقلب الخطط، ويبلبل الحياة، ويشعل الجذوة في الأعماق. هكذا أفلام بريزي: هناك دائماً شيءٌ ما، شخصٌ مثلاً، يحلّ على غير توقّع، ويقلقل قدومُه رتابةَ اليومي، وراحة الاطمئنان، وسكينة التكرار. أفلام بسيطة في شكلها، وعميقة في جوهرها. تتكئ على فكرة زوال وهم ما، أو خيبة أمل من شخصٍ أو حالة أو عالم. شخصيات آمنت بفكرة أو بإنسان أو بعائلة أو بعمل أو بمحيط، ثم جاء ما يؤثّر على هذه النظرة، كطارئ يحيّدها عن اطمئنانها، ويعرّضها لما يجعلها في حيرةٍ، ثم تفيق على حقيقة كانت غائرة في مكان ما: عن ذات أو إنسان قريب أو بعيد، أو عن محيط، وتفرض بقدومها مواجهة ما.

ربما يكون الطارئ امرأة، كما في "الآنسة شامبون" (2009): مُدرّسة جديدة، تقلب حياة زوجية مستقرة من دون قصد. أو شخص من الماضي، صديق طفولة مثلاً، كما في "كدمات المدن" (1998)، يظهر فجأة، فيذكّر نجاحه بأحلام فائتة بالمجد اصطدمت بواقعٍ محبِط، ويدفع من دون قصد إلى تساؤل مؤلم عن أوانٍ فات، ربما لتغيير حياة راكدة. ربما يكون فصلاً مفاجئاً من عملٍ، كما في "قانون السوق" (2015)، يصنع تحولات مصيرية لرجل في خمسينياته، كان مديراً، ثم ارتضى بعمل بسيطٍ بعد بطالة قاسية. عملٌ يضعه أمام معضلة أخلاقية: أعليه قبول كلّ شيءٍ للحفاظ على وظيفته؟

مواجهة الذات والآخر تتحوّل إلى مواجهةٍ أوسع، كما "في حرب" (2018): مواجهات بين مدير شركة وعمّال، بعد قرار الإدارة إغلاق المصنع، وفصل الموظّفين والعمّال، رغم تضحياتهم المالية الجسيمة، والأرباح القياسية التي حقّقها المصنع. كيف سيواجه المدير، المتعاطف مع عمّاله، المأزق الخطر؟ يسيطر الروتين اليومي على شخصيات بريزي. تسود الرتابة حياتها وأوضاعها. حين يقرّر وضعها أمام أبواب جديدة، تنكسر في مواجهتها آليةٌ همدت فيها العواطف والاكتشافات. يتابعها في ارتباكاتها بتعاطفٍ يبلغ مرتبة الحبّ، ويرافقها في تحوّلاتها ومصائرها الجديدة بتفهمٍ ونزعة تميلان إلى تجريب أبواب الخروج.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في "خارج الموسم"، لا يحيد عن اشتغالاته النفسية. يختار ممثّلاً في خمسينياته (عمر أبطاله عادة)، يواجه أزمة تفرض مراجعة للذات، ويتركه ليعيشها، ويرتبك في مواجهتها وحيداً، إلى أن يطرأ ما يُحرّك مشاعر ومساراً. ماتيو (غيّوم كاني)، القادم من باريس إلى بلدة ساحلية صغيرة في غرب فرنسا، ممثلٌ سينمائيّ معروف. يلجأ إلى هذا المكان هرباً من عملٍ مسرحيّ، أحسّ في اللحظة الأخيرة أنّه غير مؤهّل له. يتخلّى عن عقده، ويُخيّب أمل زملائه. يختار منتجعاً ضخماً للأغنياء، على شاطئ البحر، للترفيه. لكنّه يعيش ساعاتٍ تمرّ من دون أن يقدر أو يرغب في جعلها ممتعة. يستسلم كلّياً لمرور الزمن، كأنّه خارجه، بين مرحلتين. يعينه المكان على التأمّل في حالته: غرفة واسعة وسرير بلون أزرق رمادي بارد، ومساحات نظيفة لامعة وفارغة تقريباً من الزبائن في هذا الموسم. كأنّ هذا تعبير عن حالته النفسية: برود وفراغ وبُعد عن إثارة واضطراب.

بابتسامته الدائمة، وكسله في الحركة والاستجابة، وتنقّله المحصور بين السرير وأماكن يوفّرها له هذا الحيّز، ومحاولاته غير المثمرة لأن يكون مُنتجاً، كأن يقرأ كلّ ما لديه من سيناريوهات، يبدو ماتيو مستسلماً كلّياً لقدره. إلى أن يأتي من يُحرّك هذا الجمود: أليس (الإيطالية آلبا رورفاتشر)، التي تجاوز سنّها الـ40 عاماً، مُدرّسة بيانو في البلدة نفسها. أحبّ أحدهما الآخر منذ نحو 15 عاماً، ثم انفصلت عنه. منذ ذلك الحين، مرّ الوقت، وكلّ منهما ذهب في طريقٍ. هل تعود العلاقة؟ ينقضي وقت طويل في حوارات متقشِّفة بينهما.

في أفلامه، يتجنّب بريزي الشرح والإيضاح. شخصياته غير ثرثارة. الصمت هاجسه، وهناك شيء ما لم يُقل. تختفي الكلمات غالباً تاركة مكانها لنظرة وحركة، ولارتباكٍ لا يفارق الشخصيات. فترات الصمت مفعمة بانفعالات عميقة وغامضة، حتى لصاحبها، واللقاء غير متوقَّع ما سيجلبه على صاحبيه. لكنّ السيناريو (بريزي مع الممثلة والمخرجة ماري دروكير) يبدأ بمراوحةٍ، على عكس المنتظر، بعد لقاء الاثنين، ويأخذ المُشاهد في رحلةٍ جانبية طويلة ومفتعلة. في زواج عجوز مثليّة في دار للمسنّين، تنتقل الحفلة بتفاصيلها إلى درجة تُثير استغراباً، وتوحي بإطالةٍ يُراد منها ملء فراغ، وفيها تخبّط مثير لاستغرابٍ مسيء لبداية مُشوّقة.

أداء غيّوم كاني رائع، بنظرته الحزينة، وابتسامته الساخرة، وقدرته على تأدية شخصية إنسان عادي، مع أنّه ممثل مشهور. أداء يُخفّف قليلاً بعض ثقل يقوم على فراغ. كما أمتع الرسم المتقن للشخصيتين، فشخصية ممثل مشهور ليست محور الفيلم، رغم مشاهد طريفة عن تعامله مع جمهورٍ، يكتشف فجأة وجوده، بل الشخص بحدّ ذاته كإنسان عادي، بشكوكه وقلقه وتعامله مع حبّ قديم.

هذا أول تعاون بين بريزي وكاني، بعد أعمال عدّة كان بطلها فانسان لِندون. الحبيبة السابقة الجميلة، ذات الموهبة الموسيقية، المتخلّية عن حبّ (أو ربما الحبّ تخلّى عنها لأنّها لم تعد تتلاءم مع مصير جديد)، مُعبِّرة تماماً عن أشخاص في الحياة تمكن مُصادفتهم في كلّ مكان.

تقول أليس لماتيو: "هناك أناس خلقوا ليكونوا مثلك، وآخرون ليكونوا مثلي". أناس موهوبون يستغلّون موهبتهم، ويذهبون إلى حيث تزدهر وتشتهر؛ وآخرون يبقون مع موهبتهم، لتزدهر على قدرها في أمكنة "صغيرة"، وليتابعوا حياة "صغيرة" مع أشخاص "صغار" أو عاديين غير مشهورين. هؤلاء يتناسبون مع نمط حياة معين، هادئ ومستقر. ربما يلتقي الطرفان مجدّداً، يوماً ما. لكن، بعد لقاء حميم، يذهب كلّ منهما في حاله، ويعود إلى حياةٍ اختارها، وتناسبه. أحياناً، تكفي عبارة واحدة في فيلم.

دلالات
المساهمون