جاء إلى السينما من عالم الفيزياء والعلوم. الصدفة قادته إلى التصوير الفوتوغرافي، الذي منحه شهرة كبيرة. هذا التميّز البصري أدركه آخرون، فشجّعوه على الفن السابع.
إنّه المخرج المغربي داود أولاد السيد، الذي تنتمي أفلامه إلى "سينما المؤلف". التقته "العربي الجديد" أخيراً، فقال إنّه يحبّ "السينما البسيطة المباشرة"، ويحبّ سينما صلاح أبو سيف، ولا يفهم سينما أندريه تاركوفسكي، إذْ يجدها "مُعقّدة"، باستثناء "أندريه روبليف". يتحدّث بصراحته المعهودة، مُضيفاً أنّه "يبحث عن بصمة مميزة".
(*) كيف تقيّم فنّك وما أنجزت؟
في التصوير الفوتوغرافي، ربما وصلت وأنجزت ما أردته. أُقيمت لي معارض فوتوغرافية في أحسن قاعات باريس والعالم. أما في السينما، فلا أزال في الوسط. أنجزت 6 أفلام. ربما في الفيلم العاشر أحقّق ما أصبو إليه. أريد كسر السينما العادية. أريد طريقة حكي مختلفة، وأسلوبَ سردٍ قوياً شجاعاً. أريد كسر القواعد السردية.
(*) كنتَ ترى نفسك عالِماً. متى حدث هذا التحوّل من حُلم عالم الفيزياء إلى فنّ التصوير الفوتوغرافي، ثم السينما؟
صغيراً، كنتُ أسمعهم يقولون إنّ الأذكياء وحدهم يدرسون العلوم، بينما الأغبياء يدرسون الآداب. هذا خطأ كبير. هذا حدث معي. عندما كنتُ أقرأ رواية، لا يشجعني أحد. لا يعطيني أحد درجات جيدة، بينما يحدث العكس عندما أتحدّث في العلوم. إلى أنْ انتقلتُ إلى فرنسا، لأحصل على الدكتوراه. كنت مجتهداً وعاشقاً للعمل. في فرنسا، آنذاك، كلّ يوم خميس، كانت تُفتَح أبواب أروقة التشكيل والمسرح والفنون. كنا فقراء، وكان هناك كلّ شيء: الشراب والمأكولات والفتيات الجميلات. ذات مرة، عثرت في أحد هذه الأروقة على معرضٍ للصور بالأسود والأبيض، فحدث التحوّل عندي. بدت هذه الصور عادية جداً بالنسبة إلي، بمعنى كأنّي شاهدتها كلّها في الأحياء والقرى التي نعيش فيها. انبهرت. وجدتها حياة فرنسية تشبه حياتنا في المغرب. صباح اليوم التالي، التقيتُ صديقتي، التي هي زوجتي الآن، وكانت تعمل هناك، فطلبتُ منها مُرافقتي لشراء كاميرا.
(*) ماذا كانت تعمل؟
في مجال الصوتيات. تخرّجت في الكلية، وكان أول عام لها في مجال العمل. اشتريتُ كاميرا 8 ملم روسية. كانت صعبة جداً، لكن ثمنها أرخص، أستطيع دفعه. بدأت التصوير في أوائل الثمانينيات. بعد نحو 10 أعوام، عدتُ إلى المغرب، واشتغلتُ مُصوّراً. كانت لدي خارطة المغرب، فكنتُ أشارك في أي مناسبة وأصوّر، تماماً كما فعلت مع أصدقاء وزملاء، وضيوف المهرجان ("مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسّط"، الدورة 27، بين 10 و17 يونيو/حزيران 2022 ـ المحرّر)، في قاعة النقاش والممرات، وأثناء جلوسهم، بل في مختلف أحوالهم. ثم نظّمت إدارة المعارض في "معهد العالم العربي"، معرضاً فوتوغرافياً عن المغرب. لاحقاً، صوّرت كثيراً في المغرب، وأصدرت كتاباً بعنوان "إلى المغاربة"، مدحه كثيرون. كلّ نسخه نفدت، مع أنّ ثمنه كان مرتفعاً. كان ذلك في التسعينيات، ودار النشر فرنسية.
(*) كيف حدث التحوّل الثاني من الفوتوغرافيا إلى السينما؟
ذات يوم، طلبوا مني توقيع نسخة من الكتاب لجان ـ كلود كاريير، وكان حينها مدير "المدرسة العليا للسينما" في باريس. ثم اختاروا 12 مخرجاً من العالم لتمضية 3 أشهر في باريس. حينها، قال لي كاريير: "في هذه الصور حركة. دعنا نشتغل على الحركة السينمائية". صدقيني، حينها لم أكن أعرف ما "المدرسة العليا للسينما"، لأنّي لم أكن مهتماً بالسينما أساساً. فجأة، حصلت على منحة، تبلغ ألف يورو تقريباً، لـ3 أشهر. منذ ذلك الوقت، لا يمرّ نهار من دون أنْ أفكّر بالسينما. هكذا أصبحت حياتي. أنجزت أول فيلم قصير، ثم الثاني فالثالث. بعدها، اتّجهت إلى الفيلم الطويل. وهكذا.
(*) يقول عبد اللطيف البازي (ناقد ومترجم مغربي ـ المحرّر) إنّ "شخصياتك السينمائية تلتقي في كونها غريبة الأطوار، وتفتقد الحنان، ما يجعل علاقاتها موسومة بالعنف، بما في ذلك علاقاتها مع الجنس الآخر. كما أنّ علاقتها بالآخر الأجنبي يحكمها التباس فاجع، (لأنّها) تتأسّس على استيهامات وأحلام يقظة، لا يحكمها أي منطق". أسألك: كيف تستلهم شخوصك، وكيف تُولد الفكرة، وطقوس الكتابة لديك؟
يبدأ الفيلم عندي من أفلامٍ سابقة تقريباً، خاصة أفلامي الأخيرة. تبدأ من مواقف عشتها في فيلمٍ سابق. مثلاً: "في انتظار بازوليني" (2007، جائزة أفضل فيلم عربي في "مهرجان القاهرة الـ31"، بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني و7 ديسمبر/كانون الأول 2007 ـ المحرّر). أثناء تصويره، بنينا ديكور مسجد في مكانٍ في الصحراء، لأنّ المخرجين المغاربة لا يُصوّرون في استديوهات، كما يحدث في مصر. تصوير الأشياء الشخصية خارجي، وأحياناً نضطرّ إلى بناء بيوت ومحلات بيع وشراء، مجاناً. في هذا الفيلم، بنينا ديكوراً لجامع. أثناء التصوير، فُوجئنا ذات مساء برجل جاء الجامع، لحظة صلاة المساء، وبدأ الصلاة، فلحق به 3 أو 4، للصلاة معه. ضحكنا. لكنّنا لم نفهم شيئاً. بعد ذلك، في صلاة المغرب، جاء 15 شخصاً. مالك الأرض الذي أجّرنا إياها جاء إلينا: "ستحدث مشكلة"، وطلب إغلاق المكان، وعدم فتحه إلا وقت التصوير. انتقلنا إلى مدينة أخرى لإكمال التصوير، وعدنا بعد 4 أسابيع. حينها، تجمّع أهل القرية طالبين منا ترك مفتاح الجامع للصلاة فيه. هكذا جاءتني فكرة "الجامع".
(*) "الجامع" نال 3 جوائز من مهرجانات مهمّة، كسان سباستيان في إسبانيا، والجائزة الذهبية لأفضل سيناريو في "مهرجان الفيلم الفرنكوفوني" في بلجيكا، والتانيت البرونزي في قرطاج.
كذلك "أصوات في الصحراء". لكنّه للأسف تزامن مع تفشي وباء كورونا، فلم يأخذ حقه من العروض. في التصوير، حصلت مشكلة، منها انطلقت فكرة فيلمي المقبل، "البحيرة الزرقاء". الحياة، بالنسبة إلي، هي السينما، والسينما هي الحياة. أنا لا أقول إنّي سأعمل موضوعاً عن المرأة، أو عن قضية معيّنة. لا أفعل هذا. لكنّي ألتقط مواقف من الحياة، فالسينما حياة الإنسان. أتأمل الناس. لكلّ إنسان يمرّ أمامي حكاية. هذا جميل.
(*) عندما يحدث موقفٌ كهذا، ماذا تفعل لتطويره في سيناريو؟ هل تنطلق من الموقف وتبدأ التصوير مباشرة؟ أم تكتب نصّ السيناريو بالكامل قبل بداية التصوير؟ أم تترك مساحة للارتجال؟
تكويني علمي. لدي دكتوراه في الفيزياء. إذاً، أخطّط كلّ شيء. التحضير للفيلم يأخذ منّي وقتاً طويلاً. أُعدّ له "ستوري بورد"، لن أقول بنسبة مائة بالمائة، لكنّ بنسبة كبيرة. أهتم بالتفاصيل كلّها. أعرف تفاصيل الديكور، وأين توجد الشمس، وأين تكون الإضاءة، ومن أين يدخل الممثل.
مع ذلك، حين أبدأ التصوير، ويدخل الممثل، يختلف كلّ شيء. أنسى ما كتبته، وكلّ ما أعددته. هنا، تبدأ الحياة، فالديكور والممثل فيه يخلقان حياة أخرى، وربما يخلقان تفاصيل لم تخطر على بالي عند كتابتي السيناريو. ليس هناك تناقض. يُمكن القول إنّ هناك مخزوناً أبني عليه، وأستفيد منه.
(*) يبدو الأمر مُشابهاً لعلاقتك بالطلاب؟
أجل. عندما أُدرِّس الطلاب، لا أفضل القراءة من الورقة. أنا لا أُقدِّر الدكتور أو الأستاذ اللذين يقرآن من الورقة. كذلك التصوير، بالنسبة إليّ. أحياناً تُرتَجل أشياء، تكون رائعة جداً. مثلاً: "في انتظار بازوليني"، هناك مشهد دفن أحدهم. يرتدي الكومبارس ملابس الرومان، ويسيرون. فجأة، يُردِّد هؤلاء وهم يحملون النعش، "لا إله إلا الله". هذا يخلق كوميديا لم يكن مُخطّطاً لها. عند تصوير مشهد، هبّت عاصفة قوية جداً، فجأة. لم يكن مُخطّطاً لها، لكنه بات مشهداً رائعاً جداً.
(*) في ذكر المشاهد الكوميدية: من أين اكتسبتَ روح السخرية، التي تتميّز بها في أفلامك وشخصيّتك؟ هل اكتسبتها من والديك، أو من أحدهما؟
أنا من مراكش. أهل مراكش يتميّزون بالسخرية وترديد النكات. إنّها إحدى أهمّ الوسائل الفنية لمعالجة القضايا والمشاكل. السخرية تتجاوز الرقابة. رغم أنّ الرقابة عندي ذاتية، أحدّد ما أستطيع تصويره، وما لا أستطيع. هناك أشياء لا أحبّ أنْ أراها. مثلاً: لو أردتُ تقديم مشهد عن الجنس، أصوّر رجلاً وامرأة يدخلان البيت، وأكتفي بهذا، لأنّنا سنفهم. أنا لا أحبّ تصوير الجنس. أفضّل الإيحاء به، لا تصويره.
(*) هل تعتبر المونتاج إعادة خلق للفيلم، أم أنّه مرحلة استكمالية؟
أعشق المونتاج، وأعتبره الكتابة الثالثة للفيلم. مع ذلك، في التصوير، يتمّ المونتاج تقريباً. لا إشكاليات لي في المونتاج. لا أصوّر لقطات كثيرة زائدة، ربما لقلّة الإمكانيات المادية. مدّة الفيلم، تقريباً، مائة لقطة. المونتاج عندي في الكتابة، التي نضع فيها الـ"ديكوباج"، وتتابع اللقطات.
(*) هل تُشكِّل موهبتك اللافتة في مجال الفوتوغرافيا عبئاً على مدير التصوير معك، أحياناً؟
لا، بالعكس. أنجزت 5 أفلام مع فريق التصوير نفسه. بيننا تفاهم تام. أنا قادم من المدرسة الكلاسيكية في العمل. تقريباً، 70 بالمائة من الكتابة الأولى للسيناريو تُنجز في التصوير والمونتاج.
(*) هل السينما الرقمية أفادتك، أم أخذت من الفن؟
الرقمنة، أو الديجتال، ساعدت في مسائل المونتاج، وسهّلت علينا العمل، وجعلتنا نربح وقتاً. لكنْ، في الفكر والجماليات، حدث العكس. الكمبيوتر والمونتاج الرقمي أداة لتسهيل أمور الميزانية، وربما الأشخاص. لكنْ، في الرؤية والإبداع حصل العكس. أجد أنّ الكاميرا القديمة أفضل، وتمتلك جماليات أكثر.
(*) أفلامك غير معروضة في "مهرجان تطوان"، لكنّك موجود. تُشارك وتتفاعل في النقاشات، وتصوّر بحبّ شديد. ما سرّ ذلك؟
لي مع "مهرجان تطوان" علاقة حبّ طويلة. أوّل مرة جئت إليه، كنتُ مُصوّراً صحافياً. كانت أول مرة أرى فيها صلاح أبو سيف، وممثلين مصريين. التقطتُ صوراً كثيرة. المرة الثانية، جئتُ مع أفلامٍ قصيرة لي. في كلّ مرة، أحصل على جائزة مهمّة. بعد ذلك، حضرتُ مع أفلامٍ طويلة. ثم شاركتُ في لجنة التحكيم. الآن، أقول لأحمد الحسني (مدير المهرجان ـ المحرّر) إنّه لم يبقَ لي إلا أنْ أكون رئيساً للمهرجان (يضحك).
فيلم "الجامع" كان في "مهرجان طنجة"، ولم ينل أي جائزة. كان نور الدين الصايل مديره، وكان ضد الفيلم. الفيلم نفسه شارك في تطوان، ولجنة التحكيم مختلفة، ففاز بالجائزة الكبرى، وجائزة الممثل الأول. هذا بفضل الحسني، لأنّه مثقّف حرّ. لم يخضع لأي ضغط.
(*) هل النقد السينمائي أفاد أفلامك، أم لا؟
غالبية النقّاد تُحبّني. في المغرب، نقّاد سينمائيون على مستوى جيد جداً. أحياناً، يُشير ناقد إلى مشاكل في فيلمٍ، وهذا حقّه. يكتب أن هناك مشاهد ضعيفة، أو غير مفيدة. مهمٌّ أنْ يكون المخرجُ الناقدَ الأول لنفسه. لكنْ، لدينا نقّاد سينمائيون ممتازون.