من قرأ "مالك الحزين" رواية إبراهيم أصلان البديعة، يعرف من دون عناء كبير أن لا بطل وحيداً أو واحداً لها، وأن بطلها الحقيقي ربما، المستتر، هو المكان نفسه لا الشخوص. وقد كُتبت دراسات نقدية رزينة خلصت إلى ذلك، من بينها ما كتبه الناقد المصري صبري حافظ، ما جعل القارئ أسير خريطة طريق شبه وحيدة لفهم أو تفكيك هذه الرواية التي تشكّل علامة بارزة في السرد العربي ما بعد نجيب محفوظ. على أنّ "مالك الحزين" (1983) ظلت رغم ذلك نصاً مفتوحاً على مقاربات مختلفة ومتعددة، ما جعل مخرجاً من مثل داود عبد السيد يلجأ إلى الخيانة في مقاربتها سينمائياً: خيانة بنائها السردي أولاً في فيلم "الكيت كات"، ثم تناول شريحة واحدة منها وإنشاء سرد سينمائي عليها، وبذا ثوى المكان فإذا هو مجرد خلفية لا تاري من التحوّلات التي طرأت عليه وأثرت على مصائر ساكنيه. إضافة إلى قيام عبد السيد بـ"إعدام" الشخصية الأكثر غنى وتعقيداً في الرواية، وهي يوسف النجار، ويُعتقد أنه مثّل بالنسبة للراوي مالكَ الحزين نفسه الذي عَنْوَن به روايته، حيث " أنهم زعموا أنك تقعد بالقرب من مياه الجداول والغدران فإذا جفّت أو غاضت استولى عليك الأسى، وبقيت صامتاً هكذا، وحزيناً".
أعدم عبد السيد يوسف النجار وفرّغه من غضبه وانثيالات ذاكرته وجعله نجل الشيخ حسني في الفيلم، ثم قارب عزلته بعيداً عن خلفياتها بالغة الغنى والدلالة في الرواية، تلك التي كانت تجعله وحيداً، محبطاً، مليئاً بالأسى، وهي سياسية، فالناشط السياسي (في الرواية) يقيم في ماضيه، ويتذكر مشاركاته في تظاهرات الطلبة في السبعينيات بطريقة مؤسية، ثم ينظر إلى إنكساراته وجيله فينعزل. يتم هذا بالموازاة مع تحوّلات عاصفة في المجتمع المصري على خلفية صعود السادات وسياسة الانفتاح التي تبناها، ما جعل هذا المجتمع في حالة انهيار شبه كاملة بينما كان هناك عالم آخر يصعد ويحتل الواجهة، وعناصره الصاعدة تشتري الأراضي، وتهدمها لتبني معمارها الجديد، منقطع الصلة عن ماضي المكان وذاكرته، وأكثر انسجاماً، في الوقت نفسه، مع الرغبة الاستهلاكية في حينه التي انفجرت فجأة داخل المجتمع المصري، وأتت على كل شيء بما فيه الكيت كات، وهي منطقة في حي إمبابة الشعبي، الذي يتحوّل إلى مختبر لهذه التغيرات، فيُباع فيه المقهى والمساكن والمتاجر لملاك جدد، فتتحوّل معه مصائر السكان وتتغيّر، ويواجهون المجهول وهم بلا أي حيلة، ومن بينهم يوسف النجار الذي تزداد عزلته أكثر وشعوره باللا جدوى.
سينمائياً، يبدو التعامل مع يوسف النجار كما بُني في الرواية أمراً بالغ التعقيد والصعوبة وإنْ لم يكن مستحيلاً. ويبدو أن داود عبد السيد كان يعي ما يفعله (هذا حقه بالمناسبة مخرجاً وكاتب سيناريو) بإعدام يوسف النجار وبناء نسخة أخرى منه، ومعها قام بحصر تاريخ المكان بل وتاريخ شخصيات الأبطال في الفيلم على خلاف الرواية، فالشيخ حسني الذي يفاخر في الرواية مثلاً بقصاصة صحيفة فيها صورته يصافح الملك فاروق يفاخر في الفيلم بمصافحة عبد الناصر، كأنّ الفيلم يدور بين زمنين، عبد الناصر والسادات، في إدانة ضمنية لحقبة الأخير.
أنتج داود عبد السيد فيلمه عام 1991، وأدى فيه محمود عبد العزيز واحداً من أفضل أدواره على الإطلاق، وقد استقبل الفيلم بحفاوة كبيرة، دفعت البعض إلى التطرف في مقارنة الفيلم بالرواية، واعتبار ما أنتجه عبد السيد أفضل بكثير مما كتبه أصلان، ويبدو أن هؤلاء كانوا تحت تأثير صدمة الفيلم، علماً بأن الرواية أعلى بكثير من الفيلم، وهي قابلة لمعالجات سينمائية أخرى تبرز جماليات عوالم أصلان الفريدة.
ليس ما سبق مرافعة لإدانة داود عبد السيد، أحد أهم مخرجي الموجة الجديدة في السينما المصرية، بل محاولة لموضعة مقاربته في سياق الخيانة الإبداعية، ولولاها لما أنتج نسخته هو من "مالك الحزين"، مع الإشارة هنا إلى أنه أخرج عدداً من الأفلام التي تعتبر من بين الأفضل في تاريخ السينما المصرية، من بينها تحفته "البحث عن سيد مرزوق" (إنتاج 1990) التي يعتبرها كاتب المقال على الأقل ضربته السينمائية الكبرى.