لم يقدّم المخرج المسرحي الفلسطيني، فتحي عبد الرحمن، رائعة غسّان كنفاني "رجال في الشمس"، بطريقة تقليدية، إذ طرح أسئلة أثار بعضها نقاشات حادة، إنما بسلاسة، وذلك في مطلع ووسط ونهاية العمل الذي قدّمته فرقة "المسرح الشعبي"، على خشبة مسرح قاعة الإغاثة الطبية في مدينة البيرة، مساء الأحد.
وأجاد الممثلون تجسيد أدوارهم، وإن بقيت شخصية "أبو الخيزران" مثار جدل حتى بين الممثلين في واحد من النقاشات التي كانت تقطع المسرحية بطريقة لا تشكّل نتوءاً، بل تضيف إلى العمل، بحيث يعيد المشاهد قراءة الرواية على الخشبة، ما بعد قرابة ربع قرن على بدء الألفية الثالثة، وما بعد خمسة وسبعين عاماً على النكبة.
و"أبو الخيزران" لدى كنفاني فكرة تتجاوز التشخيص والأزمنة والأمكنة، فهو ذلك الانتهازي، والقاتل والقتيل، والجلاد والضحيّة في آن، كسائر كلّ البشر. وفي الحالة الروائية، كما المسرحية التي نقلت بصدق، كان من بين الفلسطينيين الذين خدموا في الجيش البريطاني قبل نكبة عام 1948، ثم انضم إلى الفدائيين، قبل أن يتعرض لإصابة "أفقدته رجولته"، وبات همّه جمع أكبر قدر ممكن من المال، في إطار الخلاص الفردي، طارحاً السؤال منذ عام 1963، لتعود وتطلقه فرقة المسرح الشعبي بعد ستين عاماً، بلغة مُعاصرة. والسؤال هو: كيف يمكن أن يتحوّل المناضل الثائر إلى سمسار أو مهرّب، ويلهو بحيوات الآخرين؟
وعلاوة على تلك المشاهد التي كان يعود فيها الممثلون إلى يوميّاتهم، بل ويطرحون أسئلة حول المسرح والفن وحيواتهم، وحالة المحاباة داخل الوسط الفنّي، بالإضافة إلى نقاشاتهم حول المسرحية وشخوصها، وما إذا كان هذا الممثل أو ذاك يقدّم بدوره على أكمل وجه، فيما يعلو ويخبو الصراع على مساحات الأدوار وتشخيصها، ظهرت المسرحية كـ"تجربة أداء"، لتقدم عرضاً داخل العرض، وهو مبّرر درامي ذكي لتمرير هذه المشاهد التي اشتملت على نقاش حضور المرأة الفلسطينية الهامشي داخل "رجال في الشمس" المسرحية والنص، على عكس رائعة كنفاني الأخرى "أم السعد"، وصولاً إلى المشهد المقترح، والذي يبدو فصلاً جديداً في رواية كنفاني، وإن كان لا يغادر فكرة الاقتراح والتجريب التي جاءت في سياق التدريبات على العرض، قبل النهاية المقترحة أيضاً، وتمكن فيها الناجون المُفترضون من "حادثة الخزّان" من تجاوز السياج والجدران وأبراج المراقبة، في إشارة تبدو مباشرة لنجاح 6 أسرى فلسطينيين في عملية هروب أسطورية من أكثر السجون الإسرائيلية تحصيناً، وأخرى رمزية لجهة عدم الاستسلام.
وكان لتوظيف تقنية الضوء والظل حضورها الإيجابي في العرض، سواء على المستوى الفرجوي، أو على مستوى التأويلات والدلالات، في عمل هو ليس الأول فلسطينياً عن "رجال في الشمس"، وقد لا يكون الأخير، لكنه لن يكون عابراً.
مخرج المسرحية ومُعدها الفنّان فتحي عبد الرحمن قال، في حديثه مع "العربي الجديد"، إن كنفاني "كان يُبشّر بمجيء الثورة وتغيير الوضع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون... كل عمل أدبي أو فنّي قد يخضع للمراجعة والمناقشة. ليس بمفهوم النقد السطحي، بقدر مراجعة الأفكار المطروحة في عمل كتب في ستينيات القرن الماضي، وناقش النكبة واللجوء والمخيمات والمعاناة". وأضاف عبد الرحمن: "حاولنا الربط ما بين هذا العمل الروائي الأيقوني لغسّان كنفاني، الروائي والمناضل والشهيد، وما بين الواقع الحالي والمُعاش، فكنفاني تساءل: لماذا لم تطرقوا جدران الخزّان؟ ونحن نقول إننا طرقنا جدران الخزّان مئات وآلاف المرّات، لكن العالم أصمّ، وينحاز إلى الاحتلال والفاشيّين والعنصريّين".
الفنانة ميساء الخطيب، ولها باع طويل على خشبات المسارح الفلسطينية، شددت في حديث مع "العربي الجديد" على خصوصية تقديم عمل عن نص روائي للشهيد غسان كنفاني. وقالت: "رضعنا حليب أمهاتنا، ومعه حبّ فلسطين، وعشق كنفاني، وكذلك برتقال يافا الذي لطالما حضر في كتاباته".
"رجال في الشمس" بنسخة فرقة "المسرح الشعبي" من تمثيل: حسين نخلة، وجميل السايح، وأسامة ملحس، وميساء الخطيب، ورائد خطّاب، ومحمد أبو حويلة، وسندس نصر الله، وعبد الرحمن أبو سليمان.
تأسّست فرقة "المسرح الشعبي" في الأردن عام 1991، وضمّت عدداً من الفنانين الفلسطينيين والأردنيين والعرب، وأنتجت الكثير من الأعمال المسرحية، وكانت تتجوّل في عروضها بين المدن والبلدات الأردنيّة، كما أصدرت مجلّة متخصّصة في المسرح والدراما، قبل انتقالها إلى فلسطين عام 1996، لتتابع أنشطتها مقدّمة العشرات من الأعمال المسرحية على مدار العقود الماضية، مكرّسة نفسها واحدة من أبرز الفرق في المشهد المسرحي الفلسطيني، عبر العديد من المهرجانات المسرحية العربية، وحيازتها عدّة جوائز في هذه المهرجانات.