تلقيتُ وأنا في ألمانيا، الخبر المحزن من بيروت: وفاة خضر علاء الدين، فقلت على الفور: "رحمك الله. سلّم على أبيك حسن (شوشو)".
شاء قدرك التعيس أن تموت بالسكتة القلبية يوم الاحتفال بعيد الأب. كأنك تعجلت اللقاء. قّدّر لك أن تعيش عمراً أطول من عمر أبيك القصير، لكنك أنت الآخر غادرت مبكرا. رحلت وأنت في السابعة والخمسين من عمرك، وأبوك غادر دنيانا وهو في السادسة والثلاثين. كلاكما رحل قبل الأوان.
عرفتك طفلاً. وكان والدك يحرص على حضورك إلى المسرح لمشاهدة مسرحيات الأطفال التي كان يقدّمها. لم تكن قد بلغت العاشرة. أدمنت على الحضور وحفظت حوارات المسرحيات عن ظهر قلب. ويوم مرض أحد الممثلين، وقفت أنت على الخشبة وأدّيت دوره من دون تلعثم.
بعد أقل من عام على وفاة والدك، التقينا أنت وأنا في دمشق، وكنتُ مقيما فيها. وكنت أكتب آنذاك مسرحية للتلفزيون السوري بعنوان "قمر نيسان الحزين"، أخرجها هاني الروماني، وقام ببطولتها أحمد الزين وآمال عفيش، وكوكبة من الممثلات والممثلين اللبنانيين، وأنت معهم في دور الطفل سالم، الذي لا يجرؤ أهله على الخروج من البيت خلال القصف، فأرسلوك أنت لتشتري الخبز، فأرداك القناص قتيلاً، وسال دمك على الخبز، فيما الراديو يبث أغنية فيروز "لا تخافي سالم غفيان مش بردان".
ثم باعدت ما بيننا الأيام. أنا أتنقل في بلدان المهجر المختلفة، وأنت لبثت في بيروت. أدّيت سنة 1978 دوراً بارزاً في المسلسل التلفزيوني "سامي بين الكبار" كتابة مروان نجار وإخراج نقولا أبو سمح وموسيقى كفاح فاخوري. ورغم أن الحوار كان باللغة الفصحى، ورغم قلّة خبرتك في هذا المجال، تمكّنت من تجاوز هذا العائق.
ونلتَ منحة من مؤسسة رفيق الحريري، وسافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية ودرست الإخراج، ورجعت ومعك الدبلوم، والعديد من الأفكار والأحلام، ورغبة عارمة بخوض ميدان الأداء المسرحي، على غرار والدك الراحل.
وما إن وضعت الحرب في لبنان أوزارها سنة 1990، حتى اعتليت خشبة مسرح البيكاديللي في بيروت، وأعدت تقديم مسرحية "آخ يا بلدنا" من إخراج جوزف بو نصار. قمت بأداء دور شوشو، مقلّدا إياه في الصوت والحركات، وأقبل الجمهور غفيراً، وامتد عرضها لأشهر. وبادرت تزفّ لي الخبر وأنا في الكويت، وتقول لي "ليتك كنت معنا لتشاهد النجاح الكبير".
وأغرى ذلك النجاح المنتج خالد عيتاني، صاحب قاعة البيكاديللي شراكة مع أخيه هاشم، فقرّر أن ينتج مسرحية من بطولتك، وكانت هناك رغبة مشتركة بينك وبينه في تقديم مسرحية جديدة، ليست من "ريبرتوار" مسرح الوالد. طلبتَ أنت أن أكون أنا كاتبها. وحضرتُ خصيصاً من ألمانيا، كتبت نص "كرمبول". وقلت لك هذه فرصة لكي تقدّم موهبتك الذاتية. فالجمهور الغفير الذي أقبل على مشاهدة "آخ يا بلدنا" لم يكن يعرفك جيدا، إذ لم يسبق لك أن أدّيت أدوارا مسرحية. كانت هناك عوامل عدة ساهمت في تحقيق النجاح: رغبة الناس في الخروج من البيوت بعد حرب عنيفة دامت 15 عاما، وكانت "آخ يا بلدنا" أول عرض متاح. وكان الجمهور يحتفظ بأجمل الذكريات عن والدك ومسرحه، فجاء قسم يستعيد الذكريات، وقسم يشدّه الفضول لمشاهدة مسرحية أخبرهم الأهل عنها أنها كانت من روائع المسرح اللبناني، فضلا عن رغبة الجميع في امتحان مدى إتقانك لدور مثّله شوشو. وكنتَ بارعا في التقليد، وأيّدك الجمهور. وأخيرا، حافظ إخراج جوزف بو نصار على الإيقاع الكوميدي، وتولّى ممثلون موهوبون أداء الأدوار الأخرى، ومنهم من أصبح نجما مثل رندة كعدي وجان بو جدعون.
لكنك أدركت أيضاً، أن من الضروري أن تشقّ طريقك بشخصية مستقلّة. فالجمهور يشاهد التقليد مرّة، لكنه لن يقبل في المرات التالية لهذا الغرض. لكنك تهّيبت الموقف، خصوصا في أعقاب نجاح عروض "آخ يا بلدنا". راعيتُ في كتابة "كرمبول" أن تتاح لك فرصة أداء لونين، فالدور دور ممثل مسرحي يعيد تقديم مسرحية كان على وشك تقديمها في بيروت لولا اندلاع الحرب. هذا يعني مسرحية داخل المسرحية، وفرصة لأداء قسم بشخصيتك الذاتية، وقسم بشخصية الممثل شوشو. تولّى إخراج هذه المسرحية المخرج القدير روجيه عساف، وطبعها بموهبته الفائقة، وتولّى المبدع غازي قهوجي السينوغرافيا، وشاركك البطولة الممثل القدير فائق حميصي. حققت هذه المسرحية نصف نجاح، برغم مساهمات الكبار في الإخراج والسينوغرافيا والتمثيل. إذ قُدّمت في أعقاب عرض استمر طويلا لمسرحية "الواد سيّد الشغال" فأقبل الجمهور اللبناني غفيرا لمشاهدة عادل إمام وفرقته. كما تصادف أن عرض "كرمبول" تزامن مع موجة أمطار غزيرة، خفّفت من همّة الجمهور، إضافة إلى أن الحالة الاقتصادية لم تكن تسمح لقطاع كبير من الجمهور بشراء بطاقات الدخول لمشاهدة مسرحيتين متتاليتين.
على أنك استخلصت عبرة، ضرورة أن تتحرر من شخصية شوشو. ونصحك بذلك كثيرون من المحبّين. لكنك برغمٍ عنك كنت أسير شخصية الوالد. لديك أشرطة تسجيل المسرحيات، وأنت تستمع إليها مرارا، فإذا ما شئت إعادة تقديم إحداها، فسيكون من الصعب عليك أن تنسلخ من صوت شوشو المزروع في بالك، ومن طريقته في الأداء. وأنت لمست ذلك حين أعدت تقديم "جوه وبرّه" و"وصلت للتسعة وتسعين".
كانت مشكلتك الكبرى، أنك سجين كونك ابن شوشو. وكنتُ أتحسّر ليقيني أنك تملك موهبة كبيرة في الأداء الحركي، وجسمك الضئيل يساعدك على تنفيذ حركات، تجعلك من ممثلي الكوميديا الحركية البارزين. أما سجن الإلقاء فيجب أن تتحرر منه وتخرج من صوت شوشو الراسخ. وهذا يتطلب منك أن تقدّم مسرحيات جديدة مكتوبة خصيصا لك، لم تستمع فيها إلى صوت أبيك يؤدّيها.
وباعدت الأيام بيننا مجددا. وعتبتُ عليك حين أعدتَ تقديم مسرحيات أبيك. وزرتني وشرحت لك وتصافينا. كما نصحت لك الاتصال بفائق حميصي يدرّبك على الأداء الإيمائي، وهو أستاذ في هذا المجال. وحين التقيتنا منذ نحو خمس سنوات، أفضيت لي بسرّ. قلت لي إنك لم تطلب مني كتابة مسرحية تناسبك، ولم تطلب من غيري من الكتاب أيضا، ولم تلجأ إلى فائق حميصي، لأنك لم تكن تملك من المال ما يتيح لك تسديد مكافآت الآخرين. أقسمت له أنه لو طلب مني، فكنت سأمدّ له يد العون، كما أنني واثق من أن فائق حميصي كان سيساعدك حتما.
الضائقة المالية منعت خضر علاء الدين من أن يتطور، وبالتالي لازمته والتصقت به شخصية والده. ومن المحال أن يكون التقليد بمثل براعة الأصل. وفي ظروف تدهور الحالات السياسية والاقتصادية في لبنان، لم يكن بوسع خضر علاء الدين، أن يُبرز المواهب التي يمتلكها، وأن ينال تأييد الجمهور الذي يستحقه. هذا الإحباط قيّد خطواته، وأهلكته المهدئات التي كان يتناولها بنهم للهرب من واقع لم يستسغه.