رشيد بوشارب (2/ 2): "ليس هناك أقوى من عمل فيلمٍ حول قضية"

25 أكتوبر 2024
رشيد بوشارب: "بحوزتي قصص كثيرة ومواضيع للنقاش" (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- يستخدم المخرج السينمائي أفلامه كوسيلة للتعبير عن آرائه حول قضايا اجتماعية وسياسية مثل الهجرة والتمييز العرقي والاستعمار، ويشارك في نقاشات مع الجمهور بعد عرض أفلامه.
- يفضل العمل على أفكار سينمائية متنوعة، ويحرص على عدم تكرار نفسه، ويترك المجال للجيل الجديد من السينمائيين المغاربة لإثارة القضايا الاجتماعية الحالية.
- يرى أن السينما الفرنسية تتميز بتنوعها وجرأتها، ويؤمن بتأثيرها على تطوير العقليات وتسليط الضوء على التاريخ غير المعروف للجمهور.

 

(*) بمعنى أنّك ضد، أو أنّك لا تميل إلى إعلان تصريحات سياسية، بل تستخدم السينما للتعبير عن آرائك. هل الأمر على هذا النحو؟

قمتُ بهذا في كلّ أفلامي. أثرت قضايا الهجرة والتمييز العرقي والاستعمار والاحتلال في الثلاثينيات ثم الخمسينيات. هذا عملي. حين أشارك في نقاشات مع الجمهور، بعد عرض أي فيلم لي، تُثار قضايا الاستعمار الفرنسي مثلاً، أو التمييز الذي طال الجنود الذين أُلحقوا بالجيش الفرنسي، وأُحضروا من شمالي أفريقيا ودول أخرى من القارة نفسها، ولم تُدفَع لهم تعويضات، كما حصل مع الفرنسيين. كما أنّي أثير مواضيع من المجتمع الفرنسي. أفعل هذا منذ 30 سنة، وسأُكمِل.

 

(*) هناك فنانون يُصرّحون بآرائهم، وآخرون يفضّلون التعبير بأعمالهم فقط، ولا يميلون إلى هذه الوسيلة، أي التوقيع.

لم يرسل لي أحد عريضة لأوقّع عليها (كان في الولايات المتحدة، المُحرّرة). لست ضد أو مع حملات التوقيع. أقوم بعملي، ومن خلاله أنخرط في قضايا كالاستعمار والاحتلال. عبر أعمالي، أقول ما أفكّر به، وما يعيشه الآخرون أيضاً، كوالديّ. ليس هناك أقوى، بالنسبة إليّ، من عمل فيلمٍ حول قضية، والقول إنّ ما يحصل اليوم في فرنسا مُرتبطٌ بالاستعمار، وإنّ هذا موجودٌ في فلسطين، حيث الشعب الفلسطيني ينتظر أنْ يكون حرّاً ومُستقلاً.

 

(*) لنعد إلى السينما. كيف تُقرّر العمل على فكرة ما؟ هل تتركها تختمر، أم تبدأ الكتابة فوراً؟

لديّ أفكار كثيرة، وهذا من سنين طويلة. لديّ برنامج أحدّد فيه متى أنفّذ هذا أو ذاك. كما ذكرتُ، فإنّ توجّهي إلى العمل في السينما عائدٌ إلى توفّر المواضيع، ولا أخشى نفادها، فلديّ منها الكثير.

 

(*) ولكنْ، ألا تفرض مواضيع لم تكن مقرّرة سلفاً نفسها، وتدفعك إلى العمل عليها؟

حين يحدث هذا، فلأنّي أريد مثلاً إنجاز فيلمٍ كوميدي، كما فعلت مع الممثل عُمر سي في الولايات المتحدة. أحياناً، أرغب في فتح قوسين، في شيءٍ من التغيير، لأخرج من مواضيعي المحدّدة، ولأخلق جواً مختلفاً بالعمل مع ممثلين مُعجب بهم، كما حدث حين أخرجت "فقط مثل امرأة" (فيلم تلفزيوني، 2012، المحرّرة)، تمثيل غولشيفته فراهاني، عن رجل وامرأة شغوفين بالرقص الشرقي، ويعبران أميركا. هذا نوع أشتغله بعفوية.

 

(*) منذ فترة طويلة أيضاً، حقّقتَ فيلماً فكاهياً اجتماعياً بعنوان "شرف عائلتي" (1998)، عن تقاليد عائلة عربية تعيش في فرنسا.

كان هذا في بداياتي. هناك خطّ عام أسير عليه، أضمّنه مواضيعي المُحدّدة مسبقاً. أحياناً، أخرج في "نزهة قصيرة" لأحقّق فيلماً عن موضوعٍ لا يستغرق منّي وقتاً، كـ"فقط مثل امرأة"، الذي أخذ منّي ثلاثة أشهر لكتابة السيناريو، بينما الأنواع الأخرى تستلزم وقتاً أطول بكثير. الفيلم الذي ذكرتِه كان مع رشدي زم، عن عائلة جزائرية وتقاليدها. كما أردتُ الخروج قليلاً من موضوع الهجرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا، فحقّقت فيلماً في الولايات المتحدة عند بلدة على الحدود مع المكسيك، حيث الجدار، وحيث للهجرة أبعاد تتمثّل في الجدار العازل. في فرنسا، لم نبنِ جداراً. لهذا، قرّرت الذهاب إلى هناك لصنع فيلم.

 

(*) ألا تودّ العودة إلى المواضيع الاجتماعية، عن عائلات من أصول مغاربية، تواجِه اليوم تحدّيات عدّة؟ هذا يستحق فيلماً جديداً.

هناك اليوم سينمائيون مغاربة شباب كثيرون، عليهم هم إثارة الأمر، لأنّ الأحوال تغيّرت وتطوّرت رغم كلّ شيء. وهذا مع أنّنا حالياً في الاتجاه الخاطئ. من جهتي، أثرت سابقاً الموضوع، في وقت كانت صعوباته مختلفة عما هي عليه الآن بالنسبة إلى الجيل الجديد. لا أرغب في تكرار نفسي. فحتّى لو تحدّثنا عن صعوبات مختلفة، نعود إلى الشيء نفسه مع المُعاش، وطريقة الكلام. أرى هذا مع أطفالي. إنّهم ليسوا أنا أبداً.

 

(*) كيف؟ أهم أكثر اندماجاً منك حين كنت في عمرهم؟ بالتالي، هذا يمثّل تطوّراً إيجابياً. ما رأيك؟

إنّهم أقلّ تأثّراً بالظروف من جيلنا. كلّ ما يقال ويجري في السياسة. هم في عالم الشباب، في هذا الجيل الذي تجاوز الحدود. لم يكن مُتاحاً لي، في عمرهم، أي اتصال مع بقية العالم.

 

(*) هل يشعرون مثلاً بهذه المرارة التي شعرها جيلك وجيل آبائك، كأبناء مهاجرين؟

تجاوزوا هذا بقوّتهم. يعرفون أنّه موجود، لكن اقْتُرحتْ عليهم العولمة، فلا حدود اقتصادية، والبروباغندا تحفر في أذهانهم، في 15 عاماً، بأنّ الحدود اختفت، وبأنّنا سنحقّق عالماً رائعاً في أوروبا، وتطوّراً اقتصادياً. قدناهم إلى هنا، وبات صعباً الآن إعادتهم والقول لهم إنّه لن يكون لديهم طريق إلى أوروبا. إنّهم ضمن هذا، ولا يطرحون أسئلة عنه. هناك واقع، فكيف سنقلبه؟ هذا ينطبق على أبناء الأتراك في ألمانيا، أو السوريين. هناك من لا يتحدّث حتّى لغته الأمّ. لديّ أصدقاء في هولندا لا يتحدّثون إلاّ لغتها، وأنا أتحدّث بالفرنسية. لو كنتُ في ألمانيا، لتحدّثت بالألمانية.

 

 

(*) أهذا جيّد أمْ سيئ، أي الانقطاع عن الجذور؟

الناس الذين لم يعيشوا ظروف الهجرة، أي أولاد المهاجرين، ربما تكون لديهم صعوبة. أنا أتفهّم هذا، لأنّي قادمٌ من هذا المحيط. لكنْ، نحن الآن في الجيل الثالث، وهؤلاء ليس لديهم هوس الجذور. إنّها موجودة هنا. أهلي مثلاً في وهران، وهذا محسوس ومُحدّد لي ولأولادي. جدّتهم والأقرباء هنا في الجزائر. هذا شيء بديهي، ولا يُشكّل هوساً يومياً. حين نقترح على أولاد اليوم أنْ لا حدود للعالم، ينطلق كلّ منهم من جذوره وتاريخه. لكنّنا لسنا مُجبرين على أنْ نجعل من ذلك هاجسنا.

 

(*) هل يكون البطل في ذهنك حين تكتب السيناريو؟ أقلّه الشخصية الرئيسية؟

يحصل معي هذا أكثر فأكثر، لا سيما في أفلامي الأخيرة. بدأ ذلك منذ نحو ثلاثة أفلام سابقة.

 

(*) لماذا الآن تحديداً؟

لأنّي ربما عملت مع ممثلين جيّدين كثيرين. في لحظةٍ، أصبحت هكذا، ولا أعرف لمَ انقلبت. هذا لا يعني أنّ عملية اختيار الممثلين التقليدية (كاستنغ) لا تحصل.

 

(*) أعود إلى بداياتك: متى بدأت تُفكر بصُنع أفلام؟

كانت بحوزتي قصص كثيرة، ومواضيع للنقاش. قلت لنفسي إنّ السينما تُعجبني. درستها، ولم يكن الأمر صعباً، فلم أتساءل عماذا عليّ قوله، وعماذا سأتحدث. أبداً لم أتساءل. كان ذلك حاضراً تماماً في ذهني، ولا مشكلة لديّ. وبما أنّها مواضيع لم تكن مطروحة، كان هذا رائعاً.

 

(*) درست السينما للتعبير عن نفسك؟

ليس الأمر هكذا، بل لأنّي أحبّ السينما، ومُعجب بإنجازات كوستا غافراس. حين شاهدت "زَدْ" و"مفقود"، انبهرت، وقلت هذا ما أريد. لمستُ ما لديه من قدرة على مزج مواضيع سياسية بفنّ سينمائي، وهذا منحه النجاح. وجدتُ في مشاهدة أفلامه مدرسة جيدة، وتيقّنت من قدرته على التحدّث عن اليونان وجذوره، وفي الوقت نفسه عن الديكتاتورية في أميركا الجنوبية. أدركتُ أنّ هذا ما أريد عمله، وهذا عزّز رغبتي في الذهاب بالاتجاه نفسه، ولو أنّ الحصول على التمويل في فرنسا صعبٌ ومُعقّد.

 

(*) أهناك مخرجون آخرون أثّروا بك؟

أحببت أيضاً جون كازافيتس وإيليا كازان وفيم فاندرز. كما انفتحت على آخرين تميّزوا بالإخراج الفني. كنتُ أشاهد أفلام الغرب الأميركي كذلك. هناك الكثير منها.

 

(*) والسينما الفرنسية، كيف تجدها الآن؟

أجد الفرنسيين أجرأ في اللجوء إلى إنتاجات ضخمة. تتوفّر اليوم أفلام كبيرة بميزانيات ضخمة، وهذا جيّد. أما الباقي، فلا أعرفه جيداً. أنا متأخّر في هذا المجال. عبرنا إلى جيل آخر، ويصعب دائماً الحكم على أجيال أخرى في السينما، فنحن أحياناً لا نفهمهم، كالحال مع أولادنا. لديهم فكرتهم عن الحياة، وعالمهم مختلف. ربما هم على حقّ. لن أشدّهم ناحية أفكاري قبل 20 سنة.

 

(*) باستثناء المواضيع، هل لحق بالسينما الفرنسية تطوّر فنيّ ما؟

فرنسا مختبر للسينما العالمية. تنتج سنوياً نحو 300 فيلمٍ، تتميّز بشدّة تنوّعها، وظهور أساليب جديدة في الكتابة.

 

(*) ما مدى تأثير السينما على تطوير العقليات؟ أيمكن، عبر قوّتها، تغيير الأشياء؟

العمل في السينما يشبه عمل النحلة. يوجد باستمرار من يقول: "آه، لم أكن أدري بهذا". لم يسمعوا بهذا، لأنّنا لم نقل لهم. في فرنسا، لا نتحدّث عن الاستعمار على نطاق واسع. جمهور أفلامي يعبّر لي بأسئلته عن عدم معرفته بما جرى في التاريخ، ويتساءل عن مدى صحة ما شاهد، وكيف جلبنا جنوداً أجانب في الحرب الثانية ليقاتلوا مع الجيش الفرنسي، وبلغ عددهم نحو 500 ألف، كما فعل الجيش الأميركي. لكنّ هؤلاء اختفوا من التاريخ. نعم، كان هناك محمد وعلي وأفارقة وآسيويون. حتى حرب الجزائر لا يعرفون الكثير عنها، وأنّه كانت هناك حرب للاستقلال. كلّ هذا يُثار حين يجرى نقاش بعد عرض فيلمٍ لي.

التلفزيون الفرنسي عامة لم يُكرّس ساعات لسرد التاريخ عن الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية مثلاً، حيث كان هناك مغاربة وأفارقة. لا يشيرون إلى ذلك، ما يدعو إلى سوء فهم. كي يحكم الفرنسيون على السياسة الحالية، وكي تتشكّل لديهم رؤية عن الهجرة، يجب أنْ يعرفوا الماضي الاستعماري لفرنسا. عندها، يمكننا أنْ نفهم. حين كنا نُحضِر آلاف الجزائريين في قوارب للعمل في المناجم والمصانع الفرنسية مثلاً، كأبي الذي وصل عام 1947. هم يظنّون أنّ كلّ هذا بدأ منذ وقت قريب، قبل سنوات قليلة. الفرنسيون يمكنهم الحكم لو وُضِع كلّ شيءٍ على الطاولة، وجرى نقاش معمّق. هذا لا يتمّ على هذا النحو، وهنا المشكلة.

المساهمون