في عام 1976 وافق الرئيس المصري الراحل أنور السادات على سفر مومياء الملك الفرعوني رمسيس الثاني إلى باريس لعلاجها من الفطريات التي كانت قد أصابتها. حظيت هذه الزيارة حينها باهتمام بالغ في وسائل الإعلام العالمية. وأصدرت السلطات المصرية لمومياء الملك جواز سفر استثنائياً تضمن تعريفاً لشخصه يفيد بأنه ملك مُتوفى. على الجانب الآخر حظيت المومياء باستقبال رسمي وحافل بحضور الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جيسكار ديستان عند وصولها إلى الأراضي الفرنسية. عوملت المومياء حينها كما يعامل الملوك ورؤساء الدول، فقد عُزفت لها الموسيقى العسكرية، وأطلقت على شرفها 21 طلقة تحية إجلال لهذا الملك العظيم.
تتجدد ذكرى هذه الزيارة التاريخية لمومياء الملك رمسيس الثاني هذه الأيام على خلفية المعرض الذي يستضيفه مركز غراند آل دو لا فيييت (Grande Halle de La Villette) في العاصمة الفرنسية حالياً وحتى 6 سبتمبر/ أيلول المقبل لآثار رمسيس الثاني. ويقام المعرض تحت عنوان "رمسيس الثاني وذهب الفراعنة".
ترسم القطع الأثرية التي يضمها هذا المعرض ملامح الفترة الذهبية التي اتسم بها حكم رمسيس الثاني، الذي يعد أحد أقوى الملوك الذين حكموا مصر القديمة.
يعود اهتمام الغرب بهذا الملك الفرعوني إلى خمسينيات القرن الماضي حين تعامل معه الفيلم الأميركي الشهير "الوصايا العشر" (إنتاج 1956، إخراج سيسيل بلونت ديميل) باعتباره فرعون الخروج. وعلى الرغم من عدم وجود أي دلائل مادية على هذا الزعم، فإن هذه المعالجة السينمائية المبكرة كان لها دور مؤثر في ارتباط اسم رمسيس الثاني بالرواية التوراتية. إلى جانب فيلم "الوصايا العشر" ساهمت العديد من المعالجات السينمائية والوثائقية اللاحقة في إضفاء جانب أسطوري وشيق على تاريخ هذا الفرعون، ما جعله أحد أبرز العلامات الدالة على الحضارة المصرية القديمة.
من الأسباب الأخرى المهمة التي ساهمت في ترسيخ حضور الملك رمسيس الثاني بين ملوك الفراعنة الآخرين اهتمامه البالغ بتخليد اسمه، فقد بنى الكثير من المعابد وشيد العشرات من التماثيل الضخمة والمسلات. وتحتضن مصر اليوم عدداً كبيراً من الأبنية الأثرية المنتشرة في أنحاء البلاد وتحمل اسم رمسيس الثاني، ومن أبرزها معبد أبو سمبل في مدينة أسوان، وهو منحوت بالكامل في صخور الجبل. يعرف معبد أبو سمبل بواجهته التي تزينها أربعة تماثيل ضخمة، يتجاوز طولها عشرين متراً، وتمثل جميعها الملك جالساً على عرشه.
كما يتردد اسم الملك الفرعوني أيضاً على ألسنة الآلاف من المقيمين في القاهرة يومياً، فحين تعبر من شمال المدينة إلى جنوبها، لا بد لك أن تمر على هذا الميدان الذي يحمل اسمه في وسط العاصمة المصرية. وكأن رغبة هذا الملك في الحفاظ على سيرته حاضرة في أذهان الناس قد تحققت على نحو ما.
يحظى المعرض الذي تستضيفه العاصمة الفرنسية بإقبال لافت، فقد بيعت قبل انطلاقه أكثر من 450 ألف تذكرة، ومن المنتظر أن يتخطى عدد زائريه مليون زائر. لن تحِلّ المومياء ضيف شرف استثنائياً على باريس هذه المرة، غير أن القطع الأثرية الأخرى التي يضمها المعرض لا تقل أهمية عن المومياء نفسها. يضم المعرض حوالي مئتي قطعة أثرية، بينها تماثيل وحلي ونماذج من الأثاث الجنائزي، الذي لا يزال محتفظاً برونقه إلى اليوم، وقد عثر عليها في مقبرة رمسيس الثاني عند اكتشافها في وادي الملوك جنوب مصر في نهاية القرن التاسع عشر، وهي تُعد واحدة من أضخم المقابر المكتشفة في هذه المنطقة.
يُذكر أن المقبرة الفرعونية الوحيدة التي عثر عليها كاملة حتى الآن من دون أن تنهب هي مقبرة توت عنخ آمون، وكان ملكاً ضعيفاً، ولم يدم حكمه طويلاً. احتوت مقبرة توت عنخ آمون على العشرات من المنحوتات والأقنعة الذهبية، بما فيها التابوت الذهبي الذي كان يحوي رفاته، إلى جانب الحلي المرصعة بالأحجار الكريمة، وغيرها من قطع الأثاث النادرة والمتعلقات الشخصية الثمينة. بالمقارنة مع مقبرة توت عنخ آمون -وهو ملك قليل الشأن- يمكننا أن نتخيل طبيعة الكنوز التي كانت تحتويها مقبرة رمسيس الثاني. يشير عنوان المعرض الذي تستضيفه العاصمة الفرنسية إلى هذا الجانب المثير من قصة الملك رمسيس الثاني، وهو أحد الأشياء المثيرة لخيال الباحثين إلى اليوم.
ترسم القطع الأثرية التي يضمها المعرض ملامح الأبهة والقوة التي تمتعت بها فترة حكم هذا الملك الاستثنائي، الذي تربع على عرش مصر القديمة لأكثر من ستين عاماً، ويقال إنه أنجب أكثر من مائة من الأبناء والبنات. إلى جانب القطع الأثرية يوفر المعرض كذلك لزواره رحلة شيقة عن طريق الواقع الافتراضي إلى معبد أبو سمبل وقبر نفرتاري وهي زوجة رمسيس المقربة. تتيح هذه العروض الافتراضية الدخول إلى الأماكن التي يتعذر الوصول إليها في الواقع.
كما يقدم المعرض رؤية شاملة لعهد رمسيس الثاني، من بداية حكمه وحتى وفاته، وتغطي المعروضات الكثير من جوانب الحياة في ذلك الوقت، من أدوات الزينة وقطع الحلي، إلى تصميمات الأثاث المتقنة، ما يوفر إطلالة شاملة على نمط الحياة الفاخر للفرعون وحاشيته.
ينظم المعرض في باريس ضمن جولة دولية بين مدن مختلفة، وهي المحطة الثالثة له، بعد إقامته في مدينتي سان فرانسيسكو وهيوستن الأميركيتين، إذ عرضت القطع نفسها لمدة ستة أشهر في كل مدينة. ومن المقرر أن ينتقل المعرض بعد انتهائه في باريس إلى مدينة سيدني الأسترالية.