من أحد بازارات إسطنبول، اقتنى رومان بونكا عوده الأول. لم يكن الموسيقي الألماني (1951 - 2022)، يعرف أي شيء عن الآلة الغريبة، ليعود بها إلى بلده، محاولاً تعلّم العزف عليها، بالاستماع إلى تسجيلات منير بشير وحمزة علاء الدين، وتعرّف من خلال هذه الآلة، أيضاً، إلى أم كلثوم وأعجبه غناؤها.
بعدها بسنوات، تحديداً في عام 1976، صادف أن استمع إلى عود رياض السنباطي. حينها، افتُتن الشاب بالموسيقى وتكنيك العزف؛ فقرر التوجه إلى بلد الموسيقى وتعلّم العود فيها. لكن، حين زار القاهرة في عام 1982، كان في استقباله أسماء أخرى غير التي عرفها من خلال التسجيلات التي استمع إليها في ألمانيا. في مصر، تعرّف إلى نجوم، سيرتبط اسمه بهم لاحقاً، مثل محمد منير، وفتحي سلامة، وأحمد منيب.
قبل تعرّفه إلى الموسيقى العربية، اتجه بونكا إلى عزف ألحان هندية وأفغانية، على العود، كان تعرّف إليها خلال جولاته الموسيقية إلى الهند وأفغانستان، وإن كانت رحلة تعلمه بدأت مع البيانو في الكونسرفتوار، ثم تعلم الموسيقى في مدرسة الفنون، ليلتحق في سن الثامنة عشرة بعدد من فرق الروك والبوب، عازفاً على الغيتار، كما لعب على الدرامز.
تأثر بونكا، في تلك الفترة، بعازفي الغيتار جيمي هندريكس، وأولي هالسول، وجون ماكلولين، إلى جانب فرانك زابا وتيري ريبدال. لكن هذا لم يمنع انجذابه إلى العود، وتعلقه بالموسيقى الشرقية الكلاسيكية. لكن، حين جاء إلى مصر، كان المزاج الموسيقي قد تغير، وباتت الموسيقى المصرية أكثر تأثراً بنظيرتها الغربية، واتسع استخدام آلات مثل الدرامز والكيبورد، رغب الجمهور في الجديد، ليقدمه بونكا مع منير بعد لقائه إياه عن طريق الصديق المشترك، فتحي سلامة، وجلسات الطرب التي جمعتهم في بيت الملحن أحمد منيب، وكان التعاون الأول من خلال ألبوم "وسط الدايرة".
لم يكن الأمر جديداً كل الجدة على الموسيقي الألماني؛ فقد تعرّف قبلها إلى موسيقى حمزة علاء الدين النوبية، كما استمع إلى الموسيقى السودانية؛ إذ كانت قريبة إلى ما نشأ عليه من جاز وبلوز وروك؛ فجميعها ترجع أصولها إلى أفريقيا. بطبيعة الحال، اعترضت بونكا بعض الصعوبات؛ إذ بدأ التوزيع مع منير وسلامة للمرة الأولى بنظام التراكات، ما استلزم وقتاً أطول وجهداً أكبر، فحرصوا على تقديم موسيقى جديدة ومختلفة عما هو سائد.
في خضم ذلك كله، لم ينس بونكا أنه جاء إلى مصر لتعلم العود، ودله بحثه عن أستاذ إلى عبده داغر. هكذا، تنقل الشاب الألماني حينها بين الاستديو للتسجيل مع منير، وبين منزل داغر للتعلم على العود.
تطورت العلاقة مع داغر، ليسجل بونكا أسطوانة مع الموسيقي المصري الراحل تحت اسم "ملك التقاسيم"، إلى جانب إقامة عدد من الحفلات أحياها الاثنان في ألمانيا، وحققت نجاحاً كبيراً. زاد كل ذلك من امتنان بونكا لتجربة محمد منير، التي فتحت الباب أمامه ليتعرف ويعمل مع عدد من أبرز الموسيقيين، ويتذكر هذه الفترة في مقابلة مع مجلة Psychedelicbabymag: "عرفت أهم الملحنين وعازفي الموسيقى الشرقية في العالم العربي، مثل زياد الرحباني، ومحمد زين العابدين، وشربل روحانا، ونصير شمة، وسيد الشرايبي، وفرقة جيل جلالة.. تعلمت منهم الكثير، وإن كانت الموسيقى يومها أكثر أصالة، بينما اليوم الموسيقى العربية أكثر تأثراً بنظيرتها الغربية، لكني متفائل بالمستقبل، فقد قابلت الكثير من الموسيقيين الموهوبين في البلاد العربية، والقادرين على نقل الموسيقى إلى مساحات جديدة".
في مقابلة له، تحدث بونكا عن سر افتتانه بالموسيقى العربية، مشيراً إلى أنها في منطقة وسطى بين الهندية والأوروبية، فالنغمات الأساسية تتغير بشكل أكبر: "هذا أشبه بالرابط ما بين التفكير الهارموني والتفكير الميلودي الخالص في الهند. في الموسيقى الهندية، لديك السلم نفسه للنغمة، وليس اﻷمر كذلك في مصر، إذ تبدأ بسلم على نغمة ثم سلم آخر على نغمة أخرى، حتى بالنسبة لغير الموسيقيين لو استمعت للموسيقى الهندية؛ فإن أول ما تسمعه هو الشروتي، نغمة واحدة وأساسية، وكل شيء مبني عليها".
الرجل الذي تنقّل موسيقياً بين أرجاء العالم ومزج الغربي بالشرقي، ويرى البعض أنه ساهم في إضفاء طابع خاص لموسيقى الثمانينيات؛ رفض تقسيم الموسيقى- مثل كثير من الفنانين اليوم- بين جاز وبلوز وكلاسيك وشرقي وغربي.. إلخ. المسميات- كما يرى- تعود بصورة رئيسية إلى السوق الذي يهتم بتعليب الموسيقى داخل علب متمايزة.
رغم مشواره الطويل، لكن أعمال بونكا المسجلة ربما تكون محدودة؛ فالحفلات كانت أكثر جاذبية لرجل بحيوية وانطلاق بونكا؛ فأصدر الموسيقي الألماني ثلاثة ألبومات فقط: "رأسك مثل سيارة النوم" (1980) وColor me Cairo بالاشتراك مع فتحي سلامة (1995) وMaco café presents. كما ألف موسيقى الفيلم الألماني "العود" (1990) للمخرج فريتز بومان، ليفوز الفيلم بجائزة Gold hugo في "مهرجان شيكاغو الدولي" (1992).
كان آخر تعاون له مع محمد منير في أغنية الأخير، "باب الجمال". أما آخر حفلاته مع الكينغ؛ فكان حفل افتتاح "مهرجان الموسيقى العربية" (2019)، ليختم بهذا الحفل جولاته العربية، التي بدأت في أوائل الثمانينيات من القاهرة، تنقّل بعدها بين تونس ودمشق وبيروت وحلب وصنعاء والمغرب، ليرحل اليوم أخيراً عن 71 عاماً.