سألني تلميذ في السابعة من العمر عن معنى رمز "فيرماتا" الذي يُشبه حرف نون مقلوب، كان قد رُسِم على النوتة فوق نغمة الختام عند نهاية المقطوعة الموسيقية. أجبته بأن ظهور الرمز فوق النغمة عند الختام يمنح المؤدي حقاً بتأويل مدتها الزمنية عبر إطالتها قدر ما يشاء. لمّا لمست لدى الطفل توقاً إلى مزيد من الشرح، استطردت ملتجئأً إلى الاستعانة بمشهد مغيب الشمس، واصفاً كيف أنها تبدو لنا متمهّلةً في انكافئها وراء الأفق، كما لو تمنّت، أو تمنيّنا لها، أن تبقى قابعةً فيه، تُضيء لأجلنا السماء إلى الأبد.
على اعتبار كونها موضوعةً شائعةً في الأدب والفنون، لربما لم تُحسن مقطوعةٌ موسيقية تصويرَ مشهد المغيب كما فعلت أغنية "في حمرة المساء" (Im Abendrot) أو "عند الغسق"، للمؤلف الألماني ريتشارد شتراوس (1864 - 1949) التي تنتمي إلى باقة من أربع أغانٍ تُعرف بالأغاني الأربع الأخيرة، ألفها آخر حياته حين كان قد بلغ الـ84 عاماً، خصّها بصوت نسائي من طبقة السوبرانو برفقة فرقة أوركسترا كاملة العدة والعتاد. ولأجل تلك الأغنية بالذات، وظّف شتراوس قصيدة تحمل ذات العنوان لمواطنه الشاعر جوزيف فون آيشندورف (Joseph von Einchendorff).
من حسن حظ الأغنية وحظ شتراوس، والبشرية جمعاء، أن حظيت بواحد من أروع الأداءات الموسيقية التي حفظتها تكنولوجيا التسجيل الصوتي، وذلك حين صدرت في سنة 1983 عن علامة فيليبس أسطوانة تضمنت أغاني شتراوس الأربع الأخيرة، بصوت المغنية الأميركية جيسي نورمان (Jessy Norman) برفقة أوركسترا "غيڤايندهاوس" لمدينة لايبزيغ بألمانيا، بقيادة المايسترو الألماني كورت مازور (Kurt Masur).
ليس ثمة جدل بين النقاد والمؤرخين حول المكانة العالية للأغاني الأربع الأخيرة، ومن بينها "في حمرة المساء"، ضمن الآثار الموسيقية (Canon) للإنسانية. إلا أن الأداء الذي قُدمت به الأغنية من قبل كل من جيسي نورمان وكورت مازور وأروكسترا غيڤاندهاوس، له أن يُعد مثالاً وضّاءً على تضافر مكانة المؤلَّف الموسيقي وعبقرية مؤلِّفه مع كلّ من عمق الرؤية التأويلية وحسن الصنعة الفنية لدى المؤدين، في خلق أثرٍ جمالي فكري روحي يتجاوز بالمؤلَّف إلى مديات أبعد وأرحب. هنا، يتماهى النص، أو النوتة الموسيقية بتأويلها وأدائها، ولا يعود بالإمكان النظر إلى الأغنية إلا من خلال منظار التسجيل الذي خلّفته نورمان برفقة مازور.
ليس مشهد المغيب في إطار الأغنية سوى دلالة مجازية على موضوعة "النهاية"، وما تستدعيه من تجلّيات وإسقاطات لا تجمع بينها سوى النظرة اليائسة حيناً والواسية حيناً أخرى إلى ثنائية الموت والحياة. لئن وعى الإنسان، من بين الكائنات، واقع موته وحتمية الفناء المادي، فإن مخيّلته ظلّت تسعى من خلال تأمل دورات الطبيعة، من تعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول، فضلاً عن الموت والولادة، إلى إنتاج صورٍ تُحيل النهاية إلى مجرّد فاصلةً تمر بها دائرة الحياة في سريانها من جديد نحو فاصلة البداية.
خلال الربع الأول من القرن العشرين، كان ثمة ما يكفي من الأسباب لكي تشغل موضوعة "النهاية"، أو الموت، بال الأدباء والفنانين. كالحركة الأخيرة من السيمفونية التاسعة لمجايله النمسوي غوستاف ماهلر (1860-1911)، تجتمع في المقاربة الموسيقية لدى شتراوس إزاء "المغيب" مظاهر اقتراب النهاية على الصعيد الشخصي، بنُذر اقتراب النهاية على صعيد الحضارة الإنسانية. إحساس الاغتراب الناشئ بفعل الثورة الصناعية، والخوف من إرهاصات الوثبة التكنولوجية والتحسّب لحروب عالمية ستفرضها حركة الصفائح التكتونية للإمبراطوريات الكبرى والمجتمعات الحديثة على حدّ سواء، كل ذلك قد جعل من الموت حمّال أوجه وتأويلات، تستدعي إسقاطات ودلالات من الذاتي والموضوعي في ضوء كلّ من الراهن والآتي.
نظراً لرواج الفلسفة الشرقية بين المثقفين الغربيين إبان تلك الحقبة، نظر شتراوس، ومثله ماهلر، إلى "النهاية" من خلال انبجاسها عن البداية، وإلى الموت انطلاقاً من الحياة. وذلك ضمن جدلية تُصالح الفكر الغربي ذا القطبية الثنائية (الحياة بوصفها مقابلاً للموت) مع الشرقي القائم على التناغم ضمن لولبيّة وجود أزلية تُفضي إلى الموت بوصفه جزءاً من الحياة. لأجل ذلك، جعل شتراوس لمشهد الغسق قماشة (Canvas) من غبطة سرمدية دلالتها الموسيقية سلم مي بيمول ماجور، ذو الأثر الشعوري المُفرج الشارح للصدر. به، يجعل من الحياة مادة الموت الخام.
إلا أن تلك الغبطة السرمدية ليست طبيعة ساكنة، بل حركة دائمة دلالتها الموسيقية التوالد البوليفوني المستمر، أي حين تتعدد الألحان ضمن نسيج هارموني واحد. تسمع التآلفات والتنافرات النغمية ينبثق بعضها من بعض كتفاعلات طبيعية، أو زخارف شرقية لا تقف ولا تنتهي.
أما الدلالة الموسيقية على الموت، فتتمثل بالانقباضات النغمية الطارئة، الناتجة من تلاصق النغمات بعضها ببعض، ما يُعرف بالكتابة الكروماتية. بُعيد كل ظهور لها، لا تلبث سحب الحسرات المفعمة بالغم أن تتبدد ضمن سيرورة الحياة. وفي حضرة المشهد البرزخي الجليل، ترى الأذن صوت العالم الأرضي متجسّداً في الغناء. أما صدى العالم العلوي، فيتجلّى في زغردة آلة الفلوت الصغير المعروفة بـ"بيكولو".
أما الكيفية التي يُحدِث أداء كلّ من جيسي نورمان، كورت مازور وأوركسترا غيڤاندهاوس ذاك الأثر التجاوزي؛ إذ يدفعان بأغنية شتراوس إلى عمق نوعي، إنما تكمن في مدّ الزمن الموسيقي بعامل الإطالة. تُتيح ذلك المقدرة الصوتية الجبارة التي تتمتع بها نورمان، والتي يسّرت لمازور اعتماد سرعات بطيئة عادة ما تُضني صدور المغنين.
وكما لو أن رمز "فيرماتا" بحجم المقطوعة رُسِم فوق المدوّنة الموسيقية بأكملها، تقاوم "في حمرة الشمس" بمزيج الجمال والمواساة اقتراب النهاية، دلالةً موسيقيةً على الهاجس الدائم والمستبد بالإنسان للتمسك اليائس بالحياة وإطالة أمدها في وجه حتمية الموت.