زياد تركي مُصوِّر ومنتج ومخرج عراقي يقيم في الولايات المتحدة الأميركية. درس المسرح في "معهد الفنون الجميلة" في بغداد، مطلع ثمانينيات القرن الـ20، ونال البكالوريوس في السينما منتصف تسعينياته. عمل مدير تصوير في "غير صالح" لعدي رشيد، أول فيلم 35 ملم يُصَوّر في الحرب عام 2003، مع "جماعة ناجين الثقافية"؛ ومدير تصوير الوثائقي "العراق موطني" لهادي ماهود (التلفزيون الأسترالي). أقام معرضه الفوتوغرافي "هجرة نحو خراب" في "جمعية الفنون البصرية" و"مؤسسة المدى" و"معهد غوته"، قبل نقله إلى سنغافورة والأردن ودمشق. مخرج السلسلة الوثائقية "هوم تاون بغداد" لمؤسسة إعلامية أميركية، وحصل على جائزة "ويبي" عام 2007، وعرضت السلسلة على "ناشونال جيوغرافيك" وقنوات أميركية أخرى. كذلك عمل مديراً لتصوير "صمت الراعي" لرعد مشتّت (إنتاج دائرة السينما والمسرح، 2013).
في زيارته الأخيرة لبغداد، حاورته "العربي الجديد" في مسائل السينما والتصوير الفوتوغرافي والمشاريع المختلفة.
عملتَ في أفلام عدّة مديراً للتصوير. هل وجدت في التصوير ما تطمح إليه؟ البعض ينسبُ نجاح هذه الأفلام إليك.
هناك أشياء يجب أنْ تُقال بمهنيّةٍ، وأشياء أخرى خارج ذلك. بدايةً، الإنتاج عندنا لا أساس ولا موروث له، أو لنقل لا أصول في صناعة فيلم. عندما تختبر تجربة إنتاج فيلم كـ"صمت الراعي" أو "غير صالح"، يخلق وجودك أنت طبيعة العمل على البلاتوه. هذا يصنع ميزان العلاقات والأداء، كأنّ فريق العمل كلّه يضع خطة لإنجازه. لأننا ببساطة لا نملك إنتاجاً.
دوري في الفيلم يكون عادة أكثر من مدير تصوير. لكنْ، بشكل عام، العين الناقدة والمتلقّي النبيه يستطيعان أنْ يميّزا عناصر النجاح في الفيلم: مدير تصوير، أو مخرج، أو كاتب السيناريو. وهكذا.
في النهاية، نحن نعمل كفريقٍ واحد. ولكلّ مُبدعٍ لمسةٌ في المُنتَج الذي يعمل عليه، ويجب أنْ يكون مُنتبهاً إليه.
يعني أنْ تكون مديراً للتصوير، وتكون غير منتبه إلى التصوير، بل فقط إلى القصّة المُصوّرة، هذا يعني أنّ هناك إشكالية إبداعية في مهمّتك كمدير تصوير، لأن العناصر كلّها في الفيلم، كالمونتاج والتصوير والإخراج والأزياء والديكور، لمسات إبداعية يجب أنْ يُحسَّ بها. هذا يعني أيضاً أنّ الفيلم يخرج بتضافر جهود أشخاص مبدعين، كلّ واحدٍ منهم يحرص على أنْ تكون لمسته الإبداعية بارزة. لذلك تُخصَّص في المسابقات والمهرجانات جوائز لكلّ مهن الفيلم. هذا غير متوافر في مهرجانات المنطقة، المهتمّة بالمخرج فقط. لذا، طموحي الطبيعي أنْ أترك بصمتي في كل فيلمٍ أشتغل فيه.
كنتَ مديراً لتصوير أول فيلم بعد التغيير، عام 2003، أقصد به "غير صالح" لعدي رشيد. ماذا يعني هذا لك؟
أعتبر "غير صالح" فيلماً عفوياً، يحمل كلّ انعكاسات اللحظة، أي لحظة التغيير التاريخية. لم يكن مُخطّطاً له. قام به شبابٌ، قرّروا أنْ يصنعوا فيلماً من لا فيلم، ومن لا كاميرا. لم يكن هناك "ديجيتال" ولا شيء آخر في العراق. كنا نسمع بذلك فقط. لكنّ الإصرار والآمال والأحلام صُبَّت في هذا الفيلم.
كانت هناك "جماعة ناجين الثقافية" التي تأسّست في خضمّ هذه الأحداث. لم تخطّط لشيءٍ، إلا لعمل ثقافي في لحظة دمار المدينة، حيث السلب والنهب والصراعات السياسية. كان همّ الجماعة إنتاج خطاب ثقافي معيَّن. كنا نلتقي في مقهى "حوار"، ونتحدث عمّا سنعمل. كانت الفكرة أنْ يُنجز فيلمٌ نخرج فيه من المحليّ، أو توجيه رسالة إلى الآخر، تقول إنّنا نستطيع أنْ نعمل سينما، لا حروباً ومشاكل فقط.
الفيلم أُنجِز من مواد منتهية الصلاحية، حصل عليها فريق العمل من أنقاض بناية "دائرة السينما والمسرح".
أعتبر هذه التجربة صادقة، وتركت أثراً. كما تعرف، لم يبقَ أثرٌ لـ"جماعة ناجين"، بما فيها المسرحية التي قدّمتها، والقصائد، وتمثال الراحل باسم حمد في ساحة الفردوس. كلّ ذلك لم يكن المقصود منه تأسيس شيءٍ، بل إثبات أنّ هناك أشخاصاً مهمومين بالثقافة، وسط الفوضى والدمار.
هل توقفت عند مخرج معين، أو فيلم معين عملت فيه؟
الفيلمان اللذان عملت فيهما بعد 2003: الأول لصديق، وممثلّوه جميعهم أصدقاء. تحدّثنا عن ظروف صناعته. في الثاني، حاولت الاقتراب من حالة الاحتراف، يعني الاتفاق على الأجر مثلاً، وليس كالتجربة الأولى، اندفاعُ شبابٍ يريدون صنع أول فيلم بعد 2003. العمل كان بلا مقابل، بل نحن صرفنا عليه. في "صمت الراعي"، كان رعد مشتت يتواصل مع مدير تصوير أجنبي، لا أتذكّر جنسيته، لكنْ لم يحصل اتفاق معه، وطبعاً بسبب عدم وجود إنتاج، بمعنى "إنتاج بأصوله الفنية"، فدعاني رعد إلى العمل معه. كانت هناك مشاكل كثيرة مع الجهة المنتجة، "دائرة السينما والمسرح" التي لا تملك أي عنصر من عناصر الإبداع، بل تكتفي بمتابعة الإنجاز. إنّها جهة تابعة للدولة، ولكَ أنْ تتخيّل حجم المشكلة مع هذه الجهة.
مع المخرجين، أستمع إليهم ويستمعون إليّ، فأستفيد من الجانب الإبداعي لديهم، وأعكسه في تجاربي البصرية. لذلك، يجب أنْ تكون العلاقة بين الطرفين صحّية ومُثمرة. المخرج يرى أنّ مشهداً واحداً يكتمل بـ20 لقطة، ومدير التصوير يقترح لقطة واحدة تعبّر عن المشهد. كلّما كَثُر حجم اللقطات السردية في المشهد، تُقتل اللغة السينمائية. كنتُ دائماً أذكّر المخرج بهذه الملاحظة: أنْ نختزل، ونصنع صورة للمشهد، لا أنْ نصنع مشهداً نُحقّق منه فعل الصورة.
ماذا تقول عن الفوتوغراف والسينما؟
الاثنان عندي أمر واحد: السينماتوغراف والفوتوغراف. هما بالنسبة إليّ شيءٌ واحد. الفوتوغراف مشروعي الأساسي. إنّه بالضبط الوسيلة التي أسعى إليها للوصول عبرها إلى التصوير السينمائي. أتمرّن على الفوتوغراف من أجل الصورة في السينما. نجاحي في "غير صالح" و"صمت الراعي" ناتجٌ من عملي الفوتوغرافي. الفوتوغراف بالنسبة إليّ ليس هدفاً، بل وسيلة لبلوغ فيلم سينمائي بصري مميّز أو جيّد. كنتُ أصوّر فوتوغرافياً مع مجموعة مُصوّرين، أمثال فؤاد شاكر وعبد علي مناحي. أحياناً، كنتُ أخرج وحدي، وأتأمّل المدينة من زاويتي الخاصة، فألتقط صورة بغداد، أو الزقاق، إلخ. عندما جاءت لحظة الفيلم، كانت الصُوَر المصدر الأساسي، يعني الخزّان البصري الذي أملكه عن المدينة، خاصةً بعد القصف. أصبح هذا السجل حاضراً في عملي.
هل كان معرضك "الهجرة نحو خراب" مشروعاً لتوثيق تحوّلات المدينة، أم انعكاساً لواقع مأسوي بعد الحرب؟
ليس عندي أي مشروع للتوثيق، لكنّي أتّفق معك بكون المعرض يُسجِّل لحظةً من ذلك الزمن، ويوثّق النزوح أو اللجوء. ربما كانت تلك اللحظة بداية مواسم مقبلة من الخراب، فالمعرض يتنبّأ بموسم هجرة لا ينتهي، وسكّان العشوائيات جزء من الحالة، الأطفال والنساء والشيوخ سكنوا مُضطرّين في معسكرات الجيش، أو قرب مكبّات النفايات، أو في المؤسّسات الحكومية التي تعرّضت للخراب. المعرض بداية هجرة مستمرة نحو الخراب. إلى الآن، هناك مخيمات كثيرة.
بعد 18 عاماً على المعرض، وإلى الآن، نحن في هجرات مُتكرّرة للعوائل العراقية. يبدو لي أن رسالة المعرض تكمن في ما يحصل الآن. ليس هناك هدف توثيقي عندي. أنا مهتمّ بمضمون الصُّوَر في اللحظة التي جرت، والتي كانت لافتة للنظر. أنت ابن صحيفة "الجمهورية"، ولك أنْ تتخيّل كيف كانت الحياة فيها، وفي غرفة رئيس التحرير، وقاعة التحرير. هذا ملاذ وسكن اضطراري لعوائل لم تجد لديها سكناً بسبب الحروب.
ماذا عن مشروعك السينمائي الجديد؟
منذ عام 2013، أفكّر في حكاية فيلم سينمائي عملت عليه مع صديق وزميل، كتب معي القصّة الأدبية، وسأكتب السيناريو له، ثم أخرجه، بعد جمع الميزانية الخاصة به. هذا مشروع أعمل عليه في عمر الستين. لماذا بهذا العمر؟ لأن العائلة أخذت منّي أكثر من 20 عاماً. كان يُمكن أنْ أُخرج فيلماً بالأربعين. لماذا بالأربعين؟ لأنّ الحروب والحصار أخذت منّا الكثير. حاولتُ أنْ أبدأ عام 2003، لكن البداية كانت نهاية، للأسف. العمر لا يهمّ، فالمهم أنّي سأخرج بخطابي الإبداعي. أنا غير متوقّف، لكنّي بطيء، بسبب ظروف شخصية، وأخرى مرّ العراق فيها.