رغم البعد الجغرافي الشاسع، واختلاف تضاريس وعادات وتقاليد وثقافة ولغة، يتقاطع الفيلمان الكردستاني "سعادة عابرة" لسينا محمد والأوزبكستاني "الأحد" لشوكير خوليكوف، بشدّة، إلى درجة التطابق، تقريباً، في الموضوع، وخط سير الحبكة، وكثير من الأجواء والتفاصيل، ومشاهد تبدو كأنّها منسوخة، ما يُثير تساؤلات كثيرة، أبرزها متعلّق بطبيعة العملية الإبداعية وماهيتها، ومدى تعقّدها وتشابكها.
في حين أنّ مَبعثَ خوليكوف طرحُ قضية الماضي في مُقابل الحاضر، واختلاف الأجيال، والحياة الطبيعية ضد الحياة المدنية المتحضّرة، مع تغليف طرحه بالإنساني العميق والبسيط؛ ارتكز طرح محمد على عمق المسكوت عنه، وبساطة اليومي الإنساني وامتداده المُلامِس، برهافة، أوضاعاً سياسية شائكة في كردستان العراق، وتبعات الفَقْد والحرب والدمار.
من النقاط المُشتركة اللافتة للانتباه بين الفيلمين، اعتمادهما على بطلين رئيسيين وحيدين، لا تكاد الكاميرا تغيب عنهما؛ وكونهما يبلغان السنّ نفسها، تقريباً، بين مُنتصف السبعينيات وأواخرها؛ إلى بساطة العيش وشظفه، والحضور البارز للعزلة المادية والاجتماعية والنفسية، والوحدة المُطبقة، والخوف من الحاضر وأشباح المستقبل القريب، رغم الاعتراف بعيش حياة جيدة وخالية من الهموم، إلى حدّ كبير.
يُلاحَظ أيضاً، بتأمّل عناصر التمثيل، أنّ الفيلمين اعتمدا على ممثلين هواة، ومع هذا كان الأداء مُتقناً ومُقنِعاً وذا مصداقية. وفي سياق الحبكة، اشترك الرجلان في الجدّية والصرامة والفظاظة والصمت والتحكّم، وقسوة معاملتهما زوجتيهما، رغم ما تقومان به من مهام جسيمة، في رعايتهما والاضطلاع بالأعباء المنزلية الشاقّة، المُثقِلة لكاهل أيّ رجل، لو كان مكانهما. من ناحية أخرى، ورغم اختلاف الشخصية والمكان والبيئة والثقافة واللغة، تبقى المرأة، في الحالتين، مبعث الرعاية والحنان واللطف، التي تنتظر أدنى بادرة عطف وتواصل ومحبة، فهي التي تمرض وتُقاوم وتستنكف عن طلب العون والمساعدة، وأول من يُغادر الحياة.
فنياً، في الفيلمين دراما هادئة ومُؤثّرة وعميقة. الوتيرة بطيئة وتأمّلية، من دون ملل. فيهما قلّة حوار، وانتفاء أحداث تقريباً، وعدم الخروج من المنزل ومحيطه الضيق جداً، وتمركزهما حول شخصيتين. رغم هذا كلّه، هناك ديناميكية ساحرة مع الزوجين المُسنّين، وتكيُّف مع أساليب حياتهما وإيقاعهما وطرقهما الهادئة، وعزوفهما عن الحياة الحديثة بكل متطلّباتها، وغياب كلّ رغبة في مُفارقة المكان. لا استعراضات إخراجية، من أي نوع، مع الاعتماد على براعة الأداء التمثيلي، وتكثيف المحادثات المختصرة بينهما، والاكتفاء بتواصل ضمني وإيمائي، ما يمنح الأداء بُعداً عميقاً وطريفاً، أحياناً. يُلاحَظ أيضاً أنّ الأحداث تكاد تكون مسرحية الطابع؛ لذا، لا ينقطع الرصد المشهدي الصامت لما يحدث عبر كاميرا ثابتة في مَشاهد كثيرة.
رغم أنّ "سعادة عابرة" و"الأحد" أول فيلمين روائيين طويلين لمخرجيهما، تجنّب سينا محمد (1988) وشوكير خوليكوف (1992)، بمهارة وذكاء لافتين للانتباه، المشكلات التي تُصاحب الأعمال الأولى عادة. مثلاً: لا تبتعد الحبكة ولا تتوه عن اهتماماتها الأساسية؛ ولا تشويش بمواضيع وخيوط فرعية، وشخصيات وحوارات غير ضرورية. بدلاً من ذلك، هناك تركيز احترافي مدروس على ما يكفي من صُوَر ومجازات وجماليات، تنقل كلّها، بصمت وعمق ووعي، انطباعات دائمة وراسخة، وشديدة العذوبة والإنسانية.
في "الأحد"، بيئة جبلية خشنة وقاحلة وباردة، في ريف أوزبكستان، حيث يعيش زوجان حياةً مُكتفية ومُتواضعة، بهدوء ورضا وسكينة، بين جنبات منزل قديم جداً، جدرانه محتاجة إلى تجديد وطلاء، ومُجهّز بأساسيات لازمة لمعيشة مُتقشّفة، مع ثلاّجة غير مُستقرّة وصوتها مُزعج، وجهاز تلفزيون عتيق، وموقد يعمل بقنينة غاز، وفرن يعمل بالحطب.
الزوج (عبد الرحمن يوسفالييف) عجوز غريب الأطوار. يتحوّل وجهه الغاضب أحياناً إلى ابتسامة صفيقة لا تُقاوَم. خشنٌ وفظّ، ولطيف بين حين وآخر. الزوجة (روزا بيازوفا) هادئة وجادة وعملية، تتميّز بصبر لافت للانتباه. أحدهما يُكمّل الآخر. لا يبحثان عن أكثر من التشارك في اليوميات، وبعض الرفقة، والتواصل الضروري. يضطرب التوازن المثالي لحياتهما بسبب زيارات عرضية لابنهما بوتير (نصرولو نوروف)، الذي يجلب معه هدايا غير مُريحة، يُرسلها ابن آخر يعمل بعيداً، ولا يزورهما أبداً. تشمل الهدايا موقداً كهربائياً حديثاً، وجهاز تلفزيون رقميّاً ذا شاشة مسطّحة وجهاز تحكّم عن بعد، وثلّاجة جديدة بلا صوت. وقبل هذا كلّه، رغبة شديدة في ترميم جدران المنزل، واستبدال السيارة العتيقة.
رغم ممانعتهما، يجهد ابناهما في جرّهما تدريجياً إلى القرن الـ21. يكاد الموقد يسبّب كارثة، عندما يحاولان تشغيله. يستغرق الأمر شهراً قبل أنْ يتعلّما كيفية تشغيل التلفزيون الجديد. لم يعتادا أبداً انتفاء طنين الثلّاجة الجديدة. أمور أخرى أيضاً تسلبهما تدريجياً حياتهما الهانئة ـ الهادئة. هما لا يكترثان بكلّ هذا التحديث. يبحثان عن الجمال والرضا ومتعة الحياة في أكثر الأحداث الدنيوية بساطة وروتينية: حلب الأبقار، وجمع المياه من الجدول المحلي، ونسج الصوف لصنع سجّاد ملوّن، والاستراحة عادة تحت السماء المُرصّعة بالنجوم، فوق بطانيات وأغطية منسوجة بأيديهما.
في "سعادة عابرة"، زوجان مُسنّان (صالح باري وبروين رجبي) يعيشان في منزل صغير مُستقلّ وبعيد، تحيط به الطبيعة القروية الصحراوية الجميلة والقاسية، في إقليم كردستان العراق. يرعيان الأغنام، وهو مصدرهما الوحيد للدخل. البداية معهما وهما ينظران إلى السماء بينما تُحلّق طائرة مُقاتلة فوقهما، في انتهاك مشؤوم لمحيطهما المثالي. تدريجياً، نألف الروتين البسيط لحياتهما المُتقشّفة. في الصباح، يربط الرجل خروفاً على دراجته النارية، ويتوجّه إلى السوق لبيعه، في حين تغسل المرأة الملابس، وتُطعِم الخراف والطيور، وتُنظّف المنزل. تستمرّ القنابل في السقوط والانفجار بعيداً، والطائرات في التحليق. هناك صُوَر مُعلّقة على جدار لشبابٍ يافعين، بأشرطة سوداء تشير إلى وفاتهم، من دون أي تفسير. لعلّ أولئك الشباب أولادهما.
الوتيرة بطيئة، لكنّها مُهمّة لرصد تفاصيل روتينية مُثيرة لاستنطاق مسكوتٍ عنه. تأخذ الحياة منعطفاً مفاجئاً عندما تمرض الزوجة. في مشهد ختامي، رومانسي لطيف، تجلس الزوجة خلف زوجها على الدراجة النارية، للمرة الأولى. في توجّههما إلى المستشفى، تُثير كلمات صادقة وعفوية للزوج، كـ"احتضنيني"، تجربة تحوّلية، تكون نوعاً من شفاء لها، كما يُحتَمل أنْ تُغيّر علاقتهما إلى الأبد. فالإنسان يحتاج أحياناً إلى اهتمامٍ فقط ممن يُحبّهم. ربما يبدو هذا الاهتمام تافهاً، لكنّه يُغيّر حياة أناسٍ، والاحتضان يولِّد عاطفة الشخص، ويُعيده إلى الحياة مجدّداً.
رغم تقارب الموضوع والحبكة والشخصيات والأداء، وبطء الإيقاع، والرؤية الإخراجية فيهما، يتفرّد الفيلمان جداً، ويبدوان أصيلين وصادقين، كلّ بطريقته. ورغم تمحورهما حول آلام الشيخوخة، والمحطّات الأخيرة للحياة، واستعراضهما حيوات قائمة على شراكة عميقة، وإخلاص وتفان، وتبيان وجوه أخرى مُتعدّدة لمعنى الحب ومفهومه والتواصل والتمسك بالحياة، وحضور الموت، هما غيرُ كئيبَين، ولا مُملّين، بل إنّهما يبعثان على التمسك بالحياة، وبمفرداتها البسيطة.