تزخرالسينما الغربية بعدد كبير من الوجوه العربيّة التي مثّلت أدواراً مُهمّة في أفلامها، في مختلف أجيالها وحساسياتها، إنْ كانت أدوار بطولة أو أخرى ثانوية، لكنّها مُؤثّرة في مُخيّلة المُشاهد الغربي الذي أضحى، في كلّ فيلمٍ سينمائي يتناول منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، ينتظر ظهور وجه من هذه الوجوه العربيّة، وأبرزها سابقاً عمر الشريف.
الحضور العربيّ حينها في السينما الغربيّة متواضع، إنْ لم يكنْ مغيّباً. لكنّ أسماء جديدة ظهرت في الأعوام السابقة، تمكّنت من انتزاع مكانةٍ لها فيها، ونالت عن أدوارها في أفلامٍ مختلفة جوائز عدّة. أحد تلك الأسماء المغربيّ الفرنسي سعيد التغماوي (1973)، المُجنّس أميركياً عام 2008، والمُكرّم في الدورة الـ4 (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، عن مُجمل أعماله السينمائية التي تجاوزت 50 فيلماً، بمنحه "جائزة عمر الشريف".
ينتمي التغماوي، ممثلاً وسيناريست، إلى جيل سينمائيّ جديد مُرتبط بعرب المهجر الذين هاجروا باكراً رفقة عائلاتهم، وبعضهم مولود هناك، كالتغماوي. هناك، استطاع الجيل الجديد، المطبوع بالرحيل والنفي والهجرة، البحثَ عن منافذ ضوءٍ جديدة لحياة أفضل من خلال السينما، متعلّماً إياها في معاهد ومدراس، وفاهماً قوّتها في صنع الحدث وكسب الاحترام الذي يتوق العرب إليه في بلدانٍ غربية عدّة.
نجح الجيل الجديد فعلياً في التميّز عن أجيال مهاجرة أولى، بسبب حساسية المرحلة، وعصامية أغلب الفنانين، وقلّة الإمكانات، ما جعل عدداً منهم يلجأ إلى التمثيل لكسب لقمة العيش فقط.
"الكراهية" (1995)، للفرنسي ماثيو كازافيتس، ثاني ظهور سينمائي لسعيد التغماوي، بعد مشاركته في النسخة السينمائية للفيلم التلفزيوني "الأخوة: العجلة الحمراء" (1994)، للفرنسي أوليفييه داهان. كان حينها مُلاكماً رياضياً.
عمله الثاني يروي حكاية 3 شبان يعيشون في ضاحية باريسية، وينتمون إلى أقلّيات مُختلفة، ويعانون من عنصرية السلطات الفرنسية. بسبب الفوضى والجريمة اللذين يعمّان يومياً في الحيّ، يفقد أحد رجال الشرطة سلاحه، فتبدأ عملية البحث والتشكيك في عائلات الأقليات، من دون باقي المواطنين الفرنسيين.
يكشف التغماوي عن قدرات تمثيلية متواضعة، لكنّها مُهمّة، إذْ تظهر حركاته تلقائيّة، من دون معرفة مُسبقة بتصنّعها، بالنسبة إلى شابٍ قادم من الملاكمة. لاحقاً، درس التغماوي السينما، وتعرّف إلى أنماط صُوَرِها وجماليّاتها بفضل نماذج سينمائية عالمية.
في الوقت نفسه، لفت انتباه مخرجين عديدين، اختبروه في "كاستينغ" لأفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، بعضها جعله وجهاً عربياً مشهوراً في فرنسا، فكان هذا عاملاً مُساعداً له، إذْ بات كلّ مُخرج فرنسي يبحث عن شخصية مغربيّة لمشروع جديد له، يلجأ إلى التغماوي، بوصفه الوجه المغربي المعروف للفرنسييين.
مع ذلك، ظلّت شهرته محاصرة في فرنسا ومهرجاناتها، قبل سفره إلى الولايات المتّحدة الأميركية، بداية الألفية الجديدة. هناك، فُتحت أبواب الشهرة أمامه، بعد تمثيله في أفلامٍ مختلفة، لم يكُن بإمكانه تحقيقها لو بَقِي في فرنسا، بسبب ما يُميّز سوق السينما الأميركية ومكانتها في العالم، عن السينما الفرنسية، المُحتكِمة إلى جماليّات الصورة وفنون الحكاية ومُخاتلات السرد.
إسناد كازوفيتس الدور إليه في وقتٍ باكر من حياته الفنية، كوجه عربي، والنجاح الكبير لـ"الكراهية" في العالم، وترشيحه لجائزة "سيزار" الفرنسية عن أفضل دور كمُمثلٍ صاعد، مسائل أفادت سعيد التغماوي على أكثر من صعيد، إذْ قُدِّم للمرّة الأولى على الشاشة الكبيرة كوجه عربي في السينما العالمية.
صفة كهذه جعلته الوجه الأكثر حضوراً في السينما الأميركية التي تدور أحداث أفلامها في المنطقة العربيّة، أولاً بسبب ملامحه العربيّة الواضحة، ولأنّ السينما الأميركية تريد ممثلاً غربياً بملامح عربيّة لأدوارٍ كهذه.
انعكس هذا إيجابياً على شخصيته السينمائية، وصنع صورته العالمية. لكنّه أثّر ضمنياً، بشكلٍ سلبي، على مشروعه كممثل سينمائيّ مُستقلّ، قادر على تأدية أدوار بطولة أميركية، بغضّ النظر عن ملامحه أو انتمائه.
فالمُلاحظ أنّ أغلب أعماله مُحتكمة إلى سياقات عربيّة بامتياز، وأدواره في أفلام عدّة، كـ"مراكش إكسبرس" (1998)، لجيلي ماكّينن، و"المرأة الخارقة" (2017)، لباتي جانكينز، و"جون ويك 3" (2019)، لشاد ستالِسْكي، وغيرها، كانت شخصيات عربيّة.
هذه الصورة ستتلاشى قليلاً، بعد "غزو" ممثّلين آخرين من المنطقة العربية والآسيوية. معهم، تمّ دحض المركزية الأميركية في السينما العالمية، لما أظهره هؤلاء من قدراتٍ فنية هائلة، وحركات قتالية نوعية، فغدت السينما الأميركية بحاجة إلى وجوه جديدة، أكثر ممّا هم بحاجة إليها.
هذا ساعد التغماوي على التوغّل أكثر في المخيال الغربي، لإتقانه تكويناً سينمائياً جيداً، ومعرفته لغات كثيرة، ما جعله "المُفضّل" لدى مخرجين كثيرين، من ممثلين عرب آخرين، فكثرت أفلامه السينمائية ومسلسلاته التلفزيونية، وازدادت شهرته في الأعوام الـ10 الأخيرة تحديداً، مع المصري عمر واكد والفلسطينية هيام عبّاس واللبنانية نادين لبكي.
في هذا كلّه، أظهر سعيد التغماوي ملكات فنية مُختلفة، وقدرات هائلة على تحقيق نوعٍ من التناغم بين أدواره، عاملاً بقوّته على تكسير مفهوم المركزية الغربية، واقتحام الشاشة الكبيرة بحِرفية كبيرة، أمام نجوم كبار، لم يكُن يحلم التغماوي ـ منذ أنْ كان طفلاً في أسرة تعمل في مجال البناء، وتعشق أفلام عمر الشريف ـ أنّه سيغدو ندّاً لهم، وأحد الوجوه السينمائية في الغرب، الذي تعتبره الصحافة العالمية "الأبرز موهبة"، بعد عمر الشريف.