في تاريخها، لم تشهد السينما المصرية إلا عدداً محدوداً من مدراء التصوير الذين لهم بصمة وفضل كبير على أفلامها. مُصوّرون تجاوزوا مرحلة التنفيذ الحرفي، إلى امتلاكهم إضافة فنية حقيقية في أعمالهم.
من عبد العزيز فهمي، في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، إلى جرأة سعيد الشيمي وتطويره في التصوير في الشارع، في ثمانينيات القرن نفسه، لمحسن نصر ورمسيس مرزوق بصمة أيضاً. آخر هؤلاء سمير بهزان، الراحل يوم الثلاثاء الماضي (22 سبتمبر/ أيلول 2020)، من دون أن ينال جزءاً من التقدير الذي يستحقّه.
بدأ بهزان العمل في السينما منذ منتصف السبعينيات الماضية، مساعد مُصوّر في أفلامٍ غالبيتها تجارية، ولبعضها أهمية حقيقية في تكوينه، كالفيلم الوثائقي "جيوش الشمس" (1973) لشادي عبد السلام، و"الأفوكاتو" (1983) لرأفت الميهي. لكنّ النقلة الحقيقية في مسيرته تتمثّل بعمله في "شركة مصر العالمية"، لمؤسّسها المخرج يوسف شاهين. بداية عمله مُساعد أول في بعض أهم إنتاجاتها، مع مخرجين مختلفين ومُصوّرين كمحسن نصر ورمسيس مرزوق: "سرقات صيفية" (1988) و"مرسيدس" (1993) ليُسري نصر الله، و"إسكندرية كمان وكمان" (1990) و"القاهرة منوّرة بأهلها" (1991) لشاهين، و"شحّاذون ونبلاء" (1991) لأسماء البكري.
أفلامٌ كهذه تملك طموحاً كبيراً، صورةً وسينما، جعلت بهزان أكثر طموحاً وجرأة. هناك لحظتان مؤثّرتان في مسيرته تحدثان لاحقاً:
الأولى: قرار المخرج داوود عبد السيد بجعله مدير تصوير فيلمه "أرض الأحلام" (1993)، تمثيل فاتن حمامة ويحيى الفخراني. فيلم مختلف، يدمج بين طموح التصوير في الشارع، واللحظات السينمائية الخالصة، المحتاجة إلى رؤية بصرية محدّدة.
فيلمٌ يُثير الانتباه إليه، فمنذ تلك اللحظة، صوّر أفلاماً كثيرة، بعضها تجاري من أجل العَيش والحرفة، وبعضها يملك طموحاً فنياً حقيقياً، كـ"ميت فلّ" (1996) لرأفت الميهي، و"رومانتيكا" (1996) لزكي فطين عبد الوهاب، و"القبطان" (1997) لسيّد سعيد، و"الأبواب المغلقة" (2000) لعاطف حتاتة، و"أسرار البنات" (2001) لمجدي أحمد علي، و"مواطن ومخبر وحرامي" (2003) لعبد السيد، وصولاً إلى مسلسلات تلفزيونية، لديها شيء مختلف على مستوى الصورة، مع المخرج شادي الفخراني والممثل يحيى الفخراني، في "دهشة" (2014) و"ونوس" (2016).
مع كل تلك الأعمال المميزة، هناك جانب أهم وأقوى وأكثر تأثيراً وقيمة في مسيرة سمير بهزان: عمله مع المخرج يسري نصر الله الذي عرفه منذ فيلميه الأولين (سرقات صيفية ومرسيدس) كمساعد مُصوّر. بدأ العمل معه كمدير تصوير في منتصف التسعينيات، في الفيلم الوثائقي "صبيان وبنات" (1995) الذي يمثّل نقلة استثنائية، تقنياً واستخداماً لكاميرا "ديجيتال" وليس "خام السينما"، ما أتاح مساحة استثنائية للتواصل مع الشخصيات، والبقاء معها فترات طويلة. تكرّر التعاون معه بكاميرا "ديجيتال" أيضاً في "المدينة" (2000).
هناك جانب أهم وأقوى وأكثر تأثيراً وقيمة في مسيرة سمير بهزان: عمله مع المخرج يسري نصرالله
القيمة التقنية لعمل بهزان تحضر هنا تحديداً: كيف يمكن تجاوز الصورة المسطّحة والبدائية، التي تصنعها كاميرا "ديجيتال"، لتقديم صورة سينمائية؟ يحكي نصر الله، في لقاءات ومحاضرات عدّة له، عن التفكير المشترك مع بهزان في استخدام الألوان لخلق عمق المجال (depth of field)، بهدف كسر تسطيح الصورة، وتقليل الفجوة مع "خام السينما"، والتفاصيل الصعبة التي تمّ التحايل عليها بتعاون فني بينهما، وتقديم فيلمٍ لا يُنسى. كانت لحظة ثورية جداً، أثّرت كثيراً في الأعوام اللاحقة عليها.
التعاون مع نصر الله أفضى إلى تحقيق أجمل أفلام السينما المصرية، بصرياً. يصعب التفكير في فيلمٍ، صورته أجمل من ملحمة "باب الشمس: الرحيل" (2004). صورة أيقونية وشاعرية وساحرة لفلسطين. الجزء الثاني، "العودة" (2004)، أكثر جفاءً كخيار فني، على المستوى البصري، لكنه جميل في اختياراته الفنية وتنفيذها.
كذلك "احكي يا شهرزاد" (2008)، و"بعد الموقعة" (2012)، وآخر فيلمٍ لهما معاً الذي سيكون آخر فيلمٍ لسمير بهزان: "الماء والخضرة والوجه الحسن" (2016). هناك دائماً شيء يُجرَّب ويُلفِت الانتباه، ويكون شديد الجمال على مستوى الصورة.
نعى يُسري نصر الله صديق عمره قائلاً إنّ "خسارتك، بالنسبة إليّ وإلى السينما، لا تعوّض". إنّها خسارة فادحة فعلاً لمصوّر استثنائي.
سمير بهزان. صديقي العزيز. شريكي في كل أفلامي. إنسان نبيل وفنان كبير. خسارتك لي وللسينما لا تعوض يا أعز الناس.
Posted by Yousry Nasrallah on Tuesday, September 22, 2020