بلغت الدهشة من غزارة إنتاج الشيخ سيد درويش (1892 - 1923) ذروتها في حياته، فقد استصعب معاصروه أن يضع فرد واحد، وخلال هذه الفترة القصيرة، كل هذه الألحان من الأدوار والموشحات والمسرحيات، بل إن الشك دب إلى بعض القريبين من الرجل، وقرروا اختباره، "فأبدل المسيو كاسيو، قائد فرقة درويش، علامة موسيقية في إحدى الأغنيات المسرحية، ليختبر علم الشيخ سيد بما وضعه من ألحان كثيرة في أيام قلائل، وفاجأه الشيخ سيد، وفاجأ الموسيقيين، حين استوقفهم وأمرهم أن يؤدوا اللحن كما وضعه لهم".
يروي الموسيقي اللبناني ميشال خياط، الذي ولد في القاهرة وعاش فيها فترة طويلة، أن كاسيو ضرب رأس الشيخ سيد بقوس الكمان قائلاً: "نريد أن نعرف ما في هذا الدماغ". كان درويش بحراً نغمياً هادر الموج، وترك الأثر الأكبر على الغناء والموسيقى في القرن العشرين. ورجل بهذا الحجم الفني الهائل، يستحق في عام مئوية رحيله درساً وبحثاً أشد جدية، وأعمق في التناول، وهو ما يستلزم التحرر من الصورة النمطية والأوصاف المكررة، التي استقرت عن الرجل الفذ في حركة التأريخ الموسيقي والغنائي خلال قرن مضى.
تمثل مئوية رحيل الشيخ سيد درويش، فرصة مهمة للمراجعة وإعادة النظر لفهم الأثر العميق لهذا الشاب على مسيرة الموسيقى والغناء. وأول واجبات النقد في هذا السياق، يتحدد في رسم صورة حقيقية لما كانت عليه الموسيقى والغناء قبل ظهور درويش، واختبار المقولة الشهيرة حول هيمنة الموسيقى التركية العثمانية على المشهد الفني المصري، إلى أن ظهر "محرر" الموسيقى سيد درويش، ليبدأ في عملية "تمصير" الألحان والأغاني.
ويبدو أن كثيرين من أصحاب الفكر والقلم رأوا أن النضال الشعبي لأجل الاستقلال السياسي عن الهيمنة البريطانية، لا بد وأن يكون قد واكبه نضال للاستقلال الموسيقي عن "الهيمنة التركية". ومن بعد ثورة يوليو عام 1952، أصبحت فكرة "التحرر الموسيقي" على يد سيد درويش هي "معتمد المذهب النقدي والتأريخي" في مصر، وقد شاعت واستفاضت واستقرت، باعتبارها مسلّمة، لا يجادل فيها أحد.
لكن حقائق التاريخ الفني، الثابتة بالتدوين أو التسجيل أو التواتر، تنسف فكرة الهيمنة العثمانية على الغناء المصري، لا في وقت ظهور سيد درويش، ولا قبل ظهوره، ولا حتى في وقت ظهور محمد عثمان، الذي يراه آخرون أول من بدأ خط "التحرير". ومن يقولون بالهيمنة التركية على الغناء والموسيقى -وهم نقاد معروفون وكتاب لامعون وأكاديميون بارزون- أدركوا أنهم في مسيس الحاجة إلى أن يوضحوا للجماهير: ما هي مظاهر هذه الهيمنة التركية على الغناء المصري؟ فهذا سؤال إجباري، لا يمكن تجاوزه بالهروب إلى السؤال الثاني عن دور سيد درويش في "التحرير والتمصير".
لا يحتاج الباحث إلى عناء كبير، ليدرك أن القائلين بالهيمنة التركية على الموسيقى والغناء في مصر، لم يجدوا -عبر عقود متوالية- أي مظهر يصلح دليلاً أو شبه دليل على تلك الهيمنة، إلا لفظة "أمان يالالالي"، وهي مجرد حلية، تأتي غالبا كتتميم إيقاعي، يمكن أن يستبدل به آهات أو "يا ليل". وإذا ذهبنا لنستعرض قوالب الغناء العربي، فلن نجد لهذه "الأمان" أثراً في القصائد، لا في زمن سيد درويش، ولا قبل زمنه، ولا بعده، وكذلك لا وجود لها في "الدور" الذي يمثل فناً مصرياً خالصاً، نشأ ونما ونضج نضوجاً كاملاً قبل ميلاد سيد درويش.
وبالطبع، لا وجود لهذه اللفظة في المواويل ولا الأناشيد الدينية، ولا القوالب الغنائية الأحدث مثل الطقطوقة والمنولوج. فقط تظهر هذه اللفظة في بعض الموشحات، ومنها موشحات للشيخ سيد درويش، الذي يزعمون أنه حرر الغناء من الهيمنة التركية. وربما يفاجأ من يطالع نصوص الموشحات التي لحنها الشيخ، أن "أمان يا لالالي" لم تأت -ولو مرة واحدة- جزءاً أصيلا من بنية النص، أي أنها ليست مكتوبة أصلا، وهو ما يعني أن درويش هو من اختار استخدام الـ"يا لالالي". ومن الأمثلة الشهيرة موشحات: "منيتي عز اصباري" و"يا عذيب المرشف" و"طف يا دري".
ما سبق، ليس إلا نموذجاً واحداً لاختبار إحدى أهم المقولات المؤطرة لصورة سيد درويش في حركة التأريخ الموسيقي الحديث والمعاصر. تلك الحركة التي أساءت إلى التاريخ الموسيقي والغنائي المصري، حين جعلت من الشيخ سيد نقطة بدء، أو خطا فاصلا، ينقسم معه الغناء، كل الغناء، وتنقسم معه الموسيقى، كل الموسيقى، إلى قسمين: ما قبل سيد درويش، وتتسم بضعف وركاكة ورتابة وتتريك وطرب بلا معنى، ومرحلة ما بعد ظهور سيد درويش، وتعني ثورة وتعبيرا وتطويرا وقوة وحماسة ونضالا.
لا يمكن فهم مكان سيد درويش ومكانته، إلا بفهم جانبين مهمين: الأول، شكل المشهد الغنائي قبل الظهور الصارخ للشيخ، والثاني، ما أسهم به الرجل في كل قالب من قوالب الغناء. وفي كلا الجانبين، يتحتم الانتباه واليقظة إلى ضرورة الفصل بين الغناء المسرحي، وبين قوالب الغناء الكلاسيكي، من قصائد وأدوار وموشحات. إذ ليس من الصنيع العلمي أن نقارن لحناً مسرحياً صاغه سيد درويش بدور لحنه داود حسني مثلاً، فللحن المسرحي وظيفة، تختلف اختلافاً جذرياً عن وظيفة الدور.
الأول يستلزم التوافق مع سياق عام، كما يتقدم فيه التعبير عن المعنى والموقف، والثاني قالب خلق للطرب المحض، والتمتع بالأداء والصوت والتصرفات والهنك والآهات. الأول يشترط في كلماته أن تتوافق مع سياق الرواية أو الأوبريت، والثاني من شروط كلماته ألا تصرف المستمع عن اللحن والإجادة الصوتية. فمؤلف الدور يتعمد ألا يحمّل كلماته شحنة وجدانية عميقة، ولا تراكيب بلاغية دقيقة.
ومع الأسف، فإنّ أكثر من يتناولون أعمال الشيخ سيد، كانوا وما زالوا مصرّين على مقارنة الألحان المسرحية للرجل بألحان كلاسيكية لمجايليه، من دون الالتفات إلى الفوارق الأصيلة بين الصنفين، ليترسخ في ذهن المتلقي تفوق حتمي لألحان درويش التي تبدو على الفور أسبق لعصرها، وأبعد في تطورها وتجديدها وثوريتها.
تقتضي "العدالة النقدية" أن تكون المقارنة بين أعمال من نفس الجنس الغنائي، فالمسرح يقارن بالمسرح، وقوالب الغناء الكلاسيكي تقارن بنظائرها. ومثلاً، لا يمكن لأحد أن يفهم ما أسداه درويش للمسرح الغنائي، من دون أن يرصد تطور حركة هذا المسرح، وبدايات نهضته مع مجيء الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي إلى مصر عام 1884، أي قبل ميلاد سيد بـ 6 سنوات، وأيضاً لا بد من رصد وفهم الدور الكبير الذي لعبه الشيخ سلامة حجازي، الذي ظل لسنوات طويلة أكبر رموز النهضة المسرحية المصرية.
وهذا الرصد يظهر حقيقتين في غاية الأهمية: الأولى، أنّ درويش لم يبدأ من الصفر، ولم يَخلق من عدم، لكنه كان امتداداً لنهضة كبرى، لها روادها وأعلامها... والثانية، أنّه بث في المسرح روحاً جديدة، تواكب الحالة الثورية حينها، ولم يكن غريباً أن يكون عام 1919، هو أغزر أعوام سيد درويش إنتاجاً، فقد لحن ثماني روايات، قدمتها فرقتا نجيب الريحاني وعلي الكسار، وتجاوزت أغنياتها مع ألحانه من القوالب الكلاسيكية 85 عملاً.
وقد كان لهذه الروح الدرويشية أكبر الأثر في من عاصر الرجل من ملحّني الأعمال المسرحية. فداود حسني مثلاً، لم يبدأ الانخراط الحقيقي في التلحين المسرحي إلا قبل وفاة درويش بعام أو عامين، بعد أن هيمنت المسرحيات هيمنة شبه كاملة على المشهد الغنائي.
وبعد رحيل سيد درويش، اندفع زكريا أحمد بكل قوة في التلحين المسرحي، ليكون صاحب الإنتاج الأكبر من هذا اللون بين أعلام الموسيقيين جميعاً. لحن أغنيات مسرحية "دولة الحظ" عام 1924، وكانت آخر أعماله للمسرح أوبريت "عزيزة ويونس" عام 1945.
وبين العامين، لحن الشيخ زكريا 56 رواية، تضمنت 580 أغنية، وإذا راعينا مع هذا البيان الإحصائي الأسلوب التلحيني، فلا ريب أنّ زكريا سيمثل الامتداد الأقرب لخط سيد درويش، وسيكون الأولى بخلافته، لا عبد الوهاب، ولا القصبجي، والسنباطي.
فإذا انتقلنا إلى الغناء في قوالبه الكلاسيكية، فسنجد أن دور الشيخ سيد وأثره، يتفاوت تفاوتاً كبيراً من قالب إلى آخر، ففي "القصيدة" مثلاً، لم يكن لدرويش دور مهم، ولا تمثل ألحانه من هذا القالب محطة مفصلية في تاريخ تلحين النصوص الفصيحة. القصيدة في القرن العشرين تحمّلها ثلاثة كبار: الشيخ أبو العلا محمد، ثم محمد عبد الوهاب، ثم رياض السنباطي.
وفي قالب المنولوج الوجداني الحديث نسبياً، لم يكن للشيخ سيد دور مهم، والجهود الكبرى للنهوض بهذا القالب وتطويره والوصول به إلى ذروة عليا، تحمّلها بالدرجة الأولى محمد القصبجي، ثم عبد الوهاب، مع إسهام مميز لزكريا والسنباطي. وبالرغم من أن الشيخ سيد لحن عدداً كبيراً من "الطقاطيق" فإنّ جلها -إن لم يكن كلها- جاءت ضمن الأعمال المسرحية، فكانت طبيعتها مسرحية في كلماتها وألحانها.
ويبقى الإنجاز الأكبر لسيد درويش في القوالب الكلاسيكية متمثلاً في ألحانه الخالدة من الأدوار والموشحات. تلك الألحان التي لم تلق -حتى الآن- القدر الواجب من الاهتمام والدراسة والتقديم الصحيح على المسارح. وتمثيلاً بقالب الدور، فقد لحن الشيخ سيد عشرة أدوار -على الأقل- تبدو في جانبها الشكلي ملتزمة بالهيكل والمسار الذي صاغه محمد عثمان، لكنها في جانبها الموضوعي تمثل رؤية درويشية عميقة واستثنائية، كأنها سيمفونيات مصرية، منحوتة على أحجار غرانيتية، أو أعمدة معابد فرعونية، مشحونة بالطرب، لأنه الهدف الأول للدور، لكنها تحمل في تضاعيفها ما يجاوز الطرب.
هي أمثلة كبرى، على قبول الموسيقى الشرقية، والغناء العربي، للتطوير من الداخل. هي تقليدية في شكلها، حداثية في مضمونها. جمل الهنك، والآهات بها، تنبئ عن عقل مفكر، لا يرضى بالسهل ولا بالمبذول على الطريق. لقد مثلت هذه الأدوار أحد أهم المشاريع "التفكيرية" لسيد درويش، وليس أدل على ذلك من اختلاف مقاماتها، فالأدوار العشرة، جاءت بعشرة مقامات، وبعيد جدا أن يكون هذا محض مصادفة.
وقد تخلت فرق الموسيقى العربية التي تصف نفسها بالتراثية، عن تقديم معظم هذه الأدوار في حفلاتها المتكررة على مسارح الأوبرا المصرية، بل إنها كادت أن تختصر علاقتها بأدوار الشيخ سيد درويش في عمل واحد هو "أنا هويت" الذي غناه "خلق الله" كما يقولون. يتهيب مطربو أيامنا هذه من أداء "ضيعت مستقبل حياتي"، أو "عواطفك دي أشهر من نار" أو "في شرع مين" أو "الحبيب للهجر مايل"؛ إذ تُحتم على من يريد أداءها -مع القدرة الصوتية- تدريباً ومراناً دقيقاً، للمطرب وللكورال.
خلال السنوات القليلة الماضية، تصدى أحد الأكاديميين الموسيقيين لـ"توعية" متابعيه على مواقع التواصل، وجعل كل جهده في محاضرات وتدويناته منصباً على فكرة تحرير الموسيقى المصرية من الهيمنة التركية. وقد كرر كثيراً أن محمد عثمان، طرد الآلات التركية، واستبدل بها آلات مصرية هي: العود والقانون والرق والناس، وأنه فعل هذا عام 1850. كان يقولها ويكررها في كل برنامج يظهر فيه أو ندوة يدعى إليها، بالرغم من أنّ محمد عثمان ولد عام 1855.
لم يكتف بهذا، بل زعم أن عثمان واجه القوالب التركيبة، مثل السماعيات والبشارف واللونغات والدولاب، واستبدل بها القوالب المصرية، مثل الدور والموشح والموال والقصيدة الدينية. لا أحد يعلم كيف لمتخصص أكاديمي أن يضع قوالب آلية في مواجهة قوالب غنائية، لتحل هذه محل تلك. كيف سيحل الدور محل اللونغا؟ وماذا ستفعل القصيدة بديلاً عن السماعي؟
لكن هذا الأكاديمي، له أقران، وزملاء، وتلاميذ ومعجبون، سيكونون غالباً هم المسؤولين عن تنظيم الاحتفال بمئوية رحيل سيد درويش. ووقتها، سيتكرر الحديث عن التحرير من الأتراك، كما ستقدم فرق الأوبرا: "أنا هويت"، و"أهو ده اللي صار"، و"الحلوة دي"، وسيلقي أحدهم محاضرة عن تعبيرية سيد درويش، الذي لحن جملة: "لاجل ما نعلا ونعلا ونعلا.. لازم نطاطي نطاطي نطاطي"، ووقتها، تكون "المئوية" قد صارت مجرد "مكلمة" تستعيد الأوهام القديمة.