لا تهمّني المسابقات الرياضية، ولا أتابعها، ولا أميّز بين نجومها. لكنّي أعرف أسطورة الجمباز الأميركية، سيمون بايلز. سمعت اسمها للمرة الأولى حين شاهدت، العام الماضي، الفيلم الوثائقي "اللاعبة رقم 1" الذي أعدّته المخرجة بوني كوهين، وزوجها جون شينك، لصالح منصّة "نتفليكس"، ثم تابعت أخبارها في الأيام الأخيرة، بعد إعلانها الانسحاب من مسابقات أولمبياد طوكيو، لأنّها تريد التركيز على صحّتها الذهنية، فهي تشعر "حقاً بأنّ حمل العالم كلّه مُلقى على كتفيها أحياناً".
نائب المدّعي العام في تكساس، آرون ريتز، وصف بايلز، بعد قرارها الانسحاب، بـ"الأنانية"، متّهماً إياها بإحراج بلدها، ثم سارع إلى الاعتذار يوم الأربعاء، مُعترفاً بأنّه لا يستطيع تخيّل ما مرّت به هذه الشخصية "الوطنية الحقيقية".
لكنْ، ما الذي مرّت به ابنة الـ24 عاماً، التي يقول كثيرون إنّها أنجح لاعبة جمباز أميركية على الإطلاق، وفازت بأربع ميداليات ذهبية وبرونزية في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016؟ أيّ "شياطين" تلك التي قالت إنّها تحاول طردها؟
لم يركّز الفيلم الوثائقي "اللاعبة رقم 1" على تجربة سيمون بايلز، إحدى "الناجيات" ـ اللواتي كشفن المسألة، وعددهن نحو 330 شخصاً ـ من اعتداء طبيب "اتحاد الجمباز الأميركي" لاري نصّار الذي يُنفِّذ حالياً عقوبة السجن المؤبّد. أوضح شينك، في تصريحات صحافية سابقة، أنّه، وكوهين، أرادا التركيز على الشهادات الأولى للناجيات، وتحديداً ماغي نيكولز، وجهود الصحافيين الاستقصائيين في "إنديانا بوليس ستار" التي أدّت إلى كشف فضيحة نصّار، وتجاهل الاتحاد لجرائمه، والتستّر عليها.
للمفارقة، إعلان بايلز عن قرارها تزامن مع كشف صحيفة "واشنطن بوست" أنّ لاري نصّار دفع 300 دولار أميركي فقط كغرامات، تُشكّل جزءاً من عقوبته منذ صدور الحكم بحقّه (8 دولارات أميركية شهرياً)، بينما أنفق أكثر من 10 آلاف دولار من حسابه الخاص لدى "المكتب الفيدرالي للسجون" أثناء وجوده خلف القضبان.
بايلز لم تكن "ناجية" صامتة. في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قبل أسبوع من صدور الحكم بحق نصّار، غرّدت: "أنا أيضاً إحدى ناجياتٍ كثيرات، اعتدى عليهن لاري نصّار. أسباب كثيرة أثنتني عن مشاركة قصّتي، لكنّي أعلم الآن أنّها ليست غلطتي".
غياب قصّة بايلز لم يخفّف من قسوة الفيلم الوثائقي الذي كشف أنّ النجاح الباهر للاعبات الجمباز الأميركيات كان على حساب صحتهنّ النفسية. ما من تصريح يُبرز ثقل هذا العالم أكثر من قول جيمي دانتشر، إحدى ضحايا نصّار، إنّه كان "الرجل البالغ الوحيد اللطيف" في فريق "اتحاد الجمباز الأميركي". أيّ عالم هذا، الذي يكون فيه مُدان بالاعتداء على 140 شابة وطفلة من مختلف الأعمار، وبحيازة آلاف الصُور الإباحية للأطفال "البالغ الوحيد اللطيف"؟
"اللاعبة رقم 1" يُسلّط الضوء على المدرّب بيلا وزوجته مارتا كارولي اللذين انشقّا عن رومانيا عام 1981، ويُنسب إليهما الفضل في نجاح رياضة الجمباز الأميركية، عبر مركز تدريب خاص بهما في تكساس، في مزرعة لا يُسمح للآباء والأمهات بدخولها، إذ لا حدود لما يمكن أنْ يُقدِما عليه للحصول على ما يرضيهما من المتدرّبات. سوء المعاملة هذا لا يمكن فصله عن اعتداءات لاري نصّار، لأنّه هيّأ لها البيئة المناسبة، وجعلها أكثر إرباكاً بالنسبة إلى الفتيات اللواتي واجهن صعوبة في فهم ما كنّ يتعرّضن له. فحين كنّ يُنعَتْن بأفظع الألقاب، ويُدفعن بشكل متواصل إلى خسارة مزيد من أوزانهنّ، كان نصّار يعطيهن السكاكر والشوكولا خلسة.
لقطات كثيرة صادمة من هذا العالم، استعرضها "اللاعبة رقم 1". ربما تكون أكثرها تأثيراً تلك التي صوّرت لحظات فوز كيري ستراغ بالميدالية الذهبية لفريق الولايات المتحدة، في دورة الألعاب الأولمبية في أتلانتا 1996، رغم إصابة كاحلها، وشعورها بالألم الشديد. اللقطات المنصبَّة على من أُسبغ عليها كثيراً صفات التفاني والإصرار، أعطيت معنى مختلفاً في سياق الفيلم الوثائقي. فهل كانت ستراغ تملك خياراً آخر حينها؟ ربما لو أعيد الزمن إلى الوراء، لاختارت ستراغ المنافسة مُجدّداً بكاحلها المصاب. ربما. لكنّ القول إنّها كانت حرّة في اختياراتها حينها ليس إلّا وهماً.
أما الآن، فتريحني فقط فكرة أنّ بايلز تملك الخيار. خيار أن تستريح، وأن تكفّ عن محاولة مطاردة الشياطين التي جثمت طويلاً فوق كتفيها.