في "زيارة"، تعود سيمون بيتّون (67 عاماً) إلى المغرب، حيث جذور ثقافتها المزدوجة التي أغنت رؤيتها كإحدى أفضل مخرجات الوثائقي في السينما المعاصرة، بفضل فيلموغرافيا حافلة بأفلام ملتزمة ومفعمة بالإنسانية، كالأرشيف التاريخي ("فلسطين، حكاية أرض"، 1992)، والبورتريه ("محمود درويش، الأرض مثل اللغة"، 1997 و"المواطن بشارة"، 2001) والبيوغرافيا السياسية ("بن بركة، المعادلة المغربية"، 2001)، ووثائقي الخلق ("جدار"، 2004)، والتحقيق ("راشيل"، 2009).
في جديدها، تمزج بيتّون بين عدد من هذه الأنواع، لالتقاط تعقيد الإرث التاريخي والثقافي اليهودي في المغرب، مستعينةً بجمالية الـ"رود موفي" لزيارة الأضرحة والمعابد اليهودية المتفرّقة في المملكة، والتبئير على الثيمة بعيون حرّاس المقابر اليهودية المسلمين، كذريعةٍ لاستكشاف المغرب العميق، الذي يُختزل إعلامياً في البعد الجغرافي، والتوظيف المسكوك لمفهوم "تمغربيت".
تتعلّق المسألة، أولاً، بصواب المسافة التي تتموقع فيها المخرجة (حين تحضر في الفيلم بصوتها الآتي من وراء الكاميرا)، في منتصف الطريق بين تخفّي فريدِريك وايزمان وآفي مُغربي، الذي يتمثّل نفسه كلّياً في أفلامه، ثمّ نظرة قريبة من البسطاء، تتلمّس شهادات الذاكرة المشتركة، برهافة وتقعير آسر، في آثار غياب اليهود المغاربة على الوجوه وفي الأشياء، قبل دور العبادة والأضرحة.
للفيلم عرضٌ أول في قسم "ماسترز" في "إدفا" (مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي)، ثم جال في مهرجانات دولية عدّة، رغم الظروف الصعبة بسبب كورونا، قبل أن يعود مع مخرجته إلى المغرب في جولة عروضٍ في المدن الكبرى.
بعد عرضٍ أُقيم مؤخّراً في الدار البيضاء، التقت "العربي الجديد" سيمون بيتّون لحوارٍ عن الفيلم والسينما.
(*) ماذا كانت النيّة الأصلية للفيلم؟
هناك نوايا كثيرة. منذ زمن طويل، أردتُ تحقيق فيلم في المغرب، يتناول بطريقة ما العلاقة بين اليهود والمسلمين، والتاريخ والذاكرة اليهوديين. لكنّي كنتُ أدور في الفراغ، فأنا لم أرغب في صنع فيلم حميميّ، لأنّ عائلتي، كالعائلات الأخرى، لا قصّة لديها تُثير الاهتمام بشكل خاص. أظنّ أنّ ما أطلق الفكرة أنّي علمتُ شيئاً لم أكن أعرفه، أو كان غامضاً في ذهني، على الأقلّ: أنّنا نتشارك أولياءَ صالحين. أي أن هناك أولياء يُبجّلهم اليهود والمسلمون. أحبّ التقاليد الشعبية، رغم أنّي لستُ مُتديّنة. المعتقدات الشعبية، خاصة في المغرب، رائعة للغاية. ألهمتني فكرة أنّ الناس يتيمّنون بالأولياء أنفسهم، لأنْ لا شيء أكثر رمزية من اندماج المعتقد. إذا ذهب رابط الاندماج إلى ذاك الحدّ، فهذا يعني أنّه لا يزال قوياً.
لذا، عندما كنتُ آتي إلى المغرب للتدريس في مدرسة السينما، أو لعرض أفلامي، أو لزيارة أصدقاء، كنتُ أطلب أنْ يتمّ أخذي في رحلاتٍ للبحث. هذه أيضاً طريقة رائعة لاكتشاف المغرب، لأنّي نشأتُ وسط الرباط، وبالتالي لا أعرف المغرب العميق. يعرف المرء منطقته غالباً، أو بلدته الصغيرة. اكتشفتُ حقاً هذا المغرب العميق، بالسير في طريق الأولياء. نتيجةً لذلك، بدأتُ بزيارة المعابد اليهودية، وأحياء الملّاح المهجورة (الأحياء القديمة، حيث كان يقطن اليهود المغاربة ـ المحرر)، واندمجتُ في لعبة تقفّي خطى الذاكرة اليهودية، نوعاً ما. لكنْ، فقط عندما بدأتُ بمقابلة حرّاس المقابر والتحدّث إليهم، خطرتْ لي الفكرة حول حقيقة الفيلم، شكله وحركته، أو تجسيده الأخير.
(*) التركيز على الحرّاس المسلمين قرار مركزي في الفيلم. متى اتّخذته؟ هل كان هناك حدث معين حسم في هذا الاتجاه؟
كانت هناك أحداث ومشاهد قوية عدّة مُحفّزة عليه. مثلاً، عندما زرتُ لأول مرّة قبر جدّي في الرباط، كان هناك حارس عجوز، توفّي لاحقاً للأسف. وبّخني قليلاً بعد العثور على القبر: "50 عاماً لم يزره أحدٌ. أين كنتِ؟". أجبتُ أنّي كنت في فرنسا، فقال لي: "فرنسا ليست بعيدة. لماذا لم تأتِ لزيارته؟". شعرتُ حقاً بالامتنان لهذا الرجل، وأدركتُ أنّه يحرس أجدادي أفضل مما أفعل، رغم أنّي أحتفظُ بذكراهم في قلبي. كانت تلك لحظة مميّزة بالنسبة إليّ.
(*) هناك لفتةٌ رائعة في مشهد الافتتاح، عندما يقوم الحارس بحكّ شاهد القبر ليكشف اسم عائلتك. هذا يقول الكثير عن التدبير الجمالي للفيلم، الذي يتمثّل تحديداً في اكتشاف آثار غياب اليهود بعيون الحرّاس المسلمين.
بالتأكيد. هناك أيضاً اللقاء القويّ والمؤثّر مع زهور رحيحيل، محافظة متحف التراث اليهودي في الدار البيضاء، التي أصبحت اليوم صديقةً حميمةً لي. عندما رأيت العناية ورقّة الحركات التي تتعامل بها مع الأشياء اليهودية، أردت تصوير ذلك. تلك الأيدي حين تلامس التوراة. زهور شخصيةٌ جميلة جداً.
(*) مشهد ملهمٌ، عندما تخبرك "أننا نُلبِّس لفيفة التوراة كما نُلبّس القفطان لعروس مغربية". هذا يعني الكثير عن العيش بين الثقافتين.
تأثّرت كثيراً بذلك، لأنّي أتذكّر منذ طفولتي حركة حمل التوراة كرضيع. هناك طقوس معيّنة في العبادة اليهودية، كأنْ يحمل الحاخام التوراة ويجلبها إلى المُصلّين، بمن فيهم النساء، حتّى يلمسوها ويقبّلوها. ولأنّها ثقيلة جداً، نحملها بطريقة معينة. زهور تحملها بالطريقة نفسها. من جهة أخرى، هذه أشياء بصرية وسينمائية للغاية.
(*) جميلٌ أيضاً حين تُسرّ لكِ أنّ الزائرين اليهود يقولون لها "لا بُدّ أنّكِ مباركة، لأنّك تستطيعين لمس التوراة كلّ يوم". في الفيلم، هناك أقوالٌ على هذا المنوال، ككلام حرّاس المقابر، تحيل إلى نوعٍ من الاعتقاد ببركات الأولياء. الجيّد أنّك لا تحكمين عليها، بل لا تشعرين في أيّ وقت بالحاجة إلى أن تحدّدي إنْ كنتِ تصدّقينها أم لا.
أجل، بل أجدها جميلةً جداً. أعتقد أنّ جُلّ المغاربة تقريباً يجدونها جميلة، باستثناء أولئك الذين لم يهضموا حداثتهم جيّداً. معتقداتنا الشعبية هي شعرنا ومسيقانا وألواننا.
(*) هناك حارس يتحدّث، في أحد أطرف المشاهد، عن الاعتقاد السائد لدى بعض النساء بأنّ الاستحمام عند ضريحِ وليٍّ صالحٍ يهوديّ، وترك ملابسهنّ القديمة هناك، يجلب لهنّ الزواج. يقول أشياء بليغة عن التسامح، الذي تنطوي عليه هذه الممارسات.
بل أبعد من التسامح. أعتقد أنّ اليهودي، ربما بشكل أكبر منذ غيابه عن المغرب، يُنظَر إليه على أنّه يمتلك البركة. مثلاً، طريفٌ ما حصل حين هطلت أمطارٌ غزيرة أثناء التصوير، أنّ شابّات حداثيات من فريق التصوير، كُنّ يقلن لي: "أرأيتِ، جلبْتِ معكِ البركة". أعتبر ذلك نوعاً من المجاملة، وشيئاً جميلاً جداً.
(*) خاصة أنّ هذه المعتقدات يُنظَر إليها بشكل سيئ من الجانبين.
تماماً. الحاخامات لا يحبّون الأولياء، كحال الفقهاء المسلمين. لكنّهم لا يمتلكون سوى أن يسايروا هذه المعتقدات، لأنّها قوية جداً، وتسبق وجودهم. عندما تصادف موقعاً لا يوجد فيه أيّ قبر، فقط منبعٌ مائي طبيعي، فهذا يعني أنّه موجود قبل الديانات التوحيدية، ولا بُدّ أنّه مكان مُقدّس، ارتباطاً بطقسٍ وثنيّ ما، يتوحّد مع الطبيعة. هذا قويّ للغاية كمعتقد. لذلك، يؤثر المتديّنون مسايرته، ويشعر الناس أنّهم يؤدّون طقوساً دينية. لكنْ، ما يفعلونه أقدم وأعمق من ذلك بكثير.
(*) هذه أيضاً معتقدات لها علاقة بمفهوم العيش معاً، لأنّها تنطوي على طقوس راسخة، تشير إلى مفهوم الإيمان بالمعنى الواسع للكلمة.
أجل. الإيمان بشكل عام، والكثير من الالتحام مع الطبيعة.
(*) بالإضافة إلى التركيز على الحرّاس المسلمين للمقابر اليهودية، فإنّ القرار التأسيسي الآخر لإخراجك في الفيلم كامنٌ في تهشيم الفضاء، وعدم اتّباع ترتيب مسار الرحلة، ما يضعنا أمام المغرب كفضاء سينمائي صرف، بكلّ تنوعه وغناه. هل اتّخذتِ هذا القرار باكراً؟
نعم، لأنّي أردتُ حقاً الاعتماد في المونتاج على التناغم البصري بين المَشاهد، والتقدم في ارتباطٍ مع ما يُقال، وليس على المنطق الجغرافي إطلاقاً. كان يهمّني وضع طريقٍ سريعة بجوار طريق وعرة، ثم فضاء قروي بعد آخر حضري، وهكذا. أنْ نتمكّن من رؤية القليل من كلّ شيء.
(*) فسيفساء الأماكن تعكس قليلاً فسيفساء الشخصيات، لأنّنا نرى أشخاصاً من كلّ الأعمار والمستويات المعرفية، ومن كلا الجنسين. حتى أنّي شعرتُ بتحيّز طفيف ومُثير للإعجاب إلى الحارسات النساء.
لا أعرف صراحةً إنْ كان هناك تحيّز. لم أعدّهن. لكنْ، لنقل إنّ هناك حارسات أكثر قليلاً مما نتوقّع رؤيته في فيلمٍ كهذا. هناك، بالفعل، نساء كثيرات يحرسن المقابر في المغرب.
(*) على أي حال، هنّ أكثر الشخصيات لفتاً للنظر، كالسيدة ليلى، التي تعلّمت العبرية كي تقرأ الأسماء على القبور، أو فاطمة الزّهراء، التي نعلم فوراً أنّها من فاس، تبعاً للطريقة التي تُقدّم بها الكعك.
نعم، بالتأكيد (ضحك). حتى حسن ترتيب الكنيس، واهتمامها بأدقّ التفاصيل.
(*) في ما يتعلّق بالمونتاج، ما المعيار الذي فصل بين المشاهد التي بقيت، والأخرى التي لم تجد طريقها إلى الفيلم؟
كان المونتاج صعباً، لأنّ معظم المَشاهد كانت تقول الشيء نفسه. المحتوى نفسه دائماً، لكنْ مع شيءٍ مُختلف قليلاً. كلّ مشهد يضيف تفصيلاً معيّناً. لذلك، كان صعباً تجنّب التكرار، وصوغ الشعور بتطوّر شيء ما، وإضافة شيءٍ من الجمال في كلّ مرة. كانت هناك خيارات ممزّقة، لأنّ لديّ مواد كثيرة، وربما كان عليّ قطع المزيد.
عندما شاهدتُ الفيلم مرة أخرى، خمّنتُ أنّه أطول قليلاً ممّا ينبغي (ضحك). لكنّ قصّ مَشاهد منه كان مؤلماً حقّاً. في نهاية المطاف، الفيلم لا يُحيط بكلّ شيء، لكنّه يعطي الشعور بتنوّع كبير. كان مُهمّاً أنْ نحسّ بأنّ الجميع يتقاسمون الشعور بالخسارة، من حرّاس المقابر، القابعين في قاع المجتمع، والذين يُعتَبرون للأسف كالخدم تقريباً، ويعيشون ببضع قطع نقدية يتركها لهم الزوار عند مغادرتهم، إلى المثقّف المتخصّص في الدراسات اليهودية في جامعة كاليفورنيا، والمناضل السياسي. جميعهم في الواقع يقولون الشيء نفسه، ويُعبّرون عن الشعور نفسه بالخسارة.
(*) بخصوص التفاصيل التي تختلف كلّ مرة. الناشط السياسي فؤاد عبد المومني، مثلاً، يلفظ عبارةً مفتاحاً عندما يقول إنّ "اليهود جزءٌ منا". هذا يختلف عن المفهوم المسكوك عن اعتبارهم أحد مكوّنات الثقافة المغربية.
لا يتعلّق الأمر بالتعايش، أو العيش معاً، كما يُقال. نحن فعلاً معاً.
(*) بالضّبط. حتّى أنّه يتحدّث عن مفهوم الغيرية، ليقول إنّنا أنفسنا والآخر في الوقت نفسه. المثير أنّ الأمر تطلّب ناشطاً حقوقياً لقول ذلك، وربما من دون حساسية الناشط، غير المُرحّب به في وسائل الإعلام السائدة، لم يكن ليشعر بذلك، ويقوله بهذه الطريقة.
فعلاً. أجد ذلك مُهماً أيضاً. يعتقد بعض الناس أنّنا فجأة لسنا بصدد الفيلم نفسه، حين يتحدّث فؤاد. لكنْ، بالنسبة إليّ، لم أرغب في الاقتصار على الصورة الجميلة للحارس "اللطيف"، نوعاً ما. الأمر أوسع نطاقاً من ذلك، ويمكن قوله بكيفية مثيرة للاهتمام، بطريقة أخرى.