مواقف كثيرة جمعت الصحافيين الفلسطينيين مع زميلتهم شيرين أبو عاقلة التي اغتالها الاحتلال الإسرائيلي في 11 مايو/أيار الحالي، على أطراف مخيم جنين. مَن التقتهم "العربي الجديد" اتفقوا على مهنيتها وحبها لعملها، كما تحدثوا عن تواضعها ومواقفها الإنسانية وتأهبها دائماً للمساعدة.
كان الاحتلال الإسرائيلي استهدف مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، مباشرة في رأسها صباح 11 مايو/أيار الحالي، أثناء تغطيتها اقتحامه في مخيم جنين للاجئين في الضفّة الغربية. وأثارت لقطات لأفراد الشرطة الإسرائيلية وهم يعتدون بالضرب على حاملي النعش والمشيعين، حتى كاد النعش يسقط أرضاً، إدانات دولية على نطاق واسع، وأججت الغضب المتنامي بالفعل من مقتل الصحافية.
وقال مدير التلفزيون العربي، عثمان البتيري من لندن: "خلال فترة عملي التي دامت نحو 19 عاماً في قناة الجزيرة، كانت علاقتي مع المراسلين في مكتب رام الله ومكتب القدس وغزة، بصفتي مسؤولاً في قسم المراسلين، وطيدة جداً، ومن بينهم وليد العمري وشيرين أبو عاقلة وجيفارا البديري وإلياس كرم. لكن علاقتي مع شيرين كانت أقدم من ذلك، وعرفتها إنسانة تتمتع بدماثة الأخلاق والتعامل". وأضاف البتيري متحدثاً لـ "العربي الجديد": "كنّا نلقبها بالليدي في سلوكها وأخلاقها وحديثها وتعاملها مع الناس".
وأشار إلى أنها "كانت من النوع الذي يوصل الرسالة بكل ذكاء وخط مهني أثق به تماماً، لم تكن تنفعل خلال البث المباشر، بل تنقل بهدوء ورزانة ما يجري من اعتداءات الاحتلال ومعاناة الشعب الفلسطيني ومشاكله. ونحن المسؤولين في غرفة الأخبار، لم نكن نقلق إطلاقاً عندما ترسل نصها، لأنه متين ومتماسك وبعيد عن أي شعبوية أو انسياق عاطفي زيادة عن اللزوم. كانت قادرة على السير على الخط الرفيع، واستطاعت أن توازن بين المهنية وبين كونها جزءاً من الحدث. كانت شديدة الذكاء. لطالما شغلها الهمّ الفلسطيني، وبما أنني أيضاً فلسطيني، كنا نتشارك الهموم نفسها".
وأضاف: "كانت من النوع الحذر، وكانت تأخذ جميع الاحتياطات عندما تتواجد في أماكن خطيرة. الشعب الفلسطيني كله فقد شيرين، وليس فقط عائلتها الصغيرة أو عائلتها في قناة الجزيرة حيث كانت تعمل. فقدنا جميعنا إنسانة رائعة خلقياً ومهنياً ووطنياً. كانت تعبر عن صوت الشعب الفلسطيني مثل بقية الصحافيين الموجودين اليوم في مواجهة الاحتلال. هذا الاحتلال الذي لا يكترث بالقوانين الدولية التي تراعي المدنيين أو الصحافيين".
الصحافية ساندي خليل عملت مع أبو عاقلة طيلة 14 عاماً، ويعود الفضل في تعارفهما إلى مجموعة من الأصدقاء المشتركين، ثم خلال عملها في معهد الإعلام في جامعة بيرزيت، وعملها أيضاً سابقاً منتجة في مكتب قناة الجزيرة في رام الله. وقالت خليل لـ "العربي الجديد": "كانت دائماً تقدم النصيحة، وتستقبل الكلّ بكل محبة وبساطة وتواضع. في كل جمعة، كنّا نحضر الفطور في المكتب معاً، وفي أيام الشتاء كانت تحب الهريسة". وأضافت: "كانت تحب مساعدة الناس، وتعطي بسخاء، ولكن بصمت".
خليل التي لا تزال تحت تأثير صدمة مقتل شيرين أبو عاقلة شددت قائلة: "لم أتوقع أن أتحدث عنها يوماً في مثل هذه الظروف القاسية. من الصعب أن تجمع حصيلة سنوات وأيام ومواقف في كلمات. صعب الحديث عن دفء منزلها، وأناقة جلساتها، وسلام تعطيه لمن حولها، وفرح يشبه فرح الأطفال، إنسانة رحلت بالجسد، لكن روحها باقية".
رانية زبانة التي تعمل منتجة في قناة الجزيرة الإنكليزية في رام الله أشارت، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن كل ما قيل في شيرين أبو عاقلة "لا يفيها حقها". ووصفتها بـ "الصادقة، والهادئة، والذكية، والمتواضعة، وصاحبة السلام الداخلي، والمحبّة للناس والقضية". عملت رانية زبانة في "الجزيرة" على مدار عشرين عاماً، وأكدت أنها خلال تلك السنوات كلها لم تسمع أي شخص، ولو لمرة واحدة، يتحدث عن شيرين أبو عاقلة بالسوء، فهي "تعطي بلا حدود، وتدعم من يحتاج إلى الدعم".
وقالت لـ "العربي الجديد": "أي تقرير تعمل عليه شيرين هو عبارة عن بحث صغير بالنسبة إليها، أو حتى رسالة دكتوراه أو ماجستير مصغرة تعدها. هي لا تعتمد فقط على حضورها ومفرداتها وقراءاتها، بل تعمل كأنها خريجة حديثة في الصحافة، ودائماً تطور من نفسها". وأضافت: "قلبها متعلق بقصص الناس، وكانت تفضل العمل على قصص الجثامين المحتجزة مثلاً، وقصص أهالي الشهداء، والأسرى، والأطفال، وما له علاقة بالمزارعين. لم تكن تحبّ العمل على القصص الجامدة السياسية، ودائماً تبحث عن مدخل إنساني لأي قصة".
على الرغم من سنوات الخبرة الطويلة لأبو عاقلة، فقد التحقت بالدفعة الأولى من دبلوم الإعلام الرقمي في مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت عام 2019، وهناك تعرف عليها الصحافي محمد غفري مراسل موقع ألترا فلسطين، بعد أن كان يعرفها من الشاشة كأي فلسطيني تابعها خلال انتفاضة الأقصى على قناة الجزيرة.
محمد غفري يصغر شيرين أبو عاقلة بتسعة عشر عاماً، وقرر دراسة الإعلام اقتداء بها، وتعلم من تقاريرها خلال دراسته الجامعية، وكان ينظر إليها كصحافية كبيرة حتى عندما التحق بالميدان معها، إذ كان يكتفي بالسلام المقتضب حين يلتقيها لأنه يشعر بالهيبة في حضورها، لكن علاقتهما تطورت خلال دراستهما معاً الدبلوم. وقال غفري، لـ "العربي الجديد"، إن أبو عاقلة عادت لدراسة الإعلام الجديد، وقررت أن تتوقف عن الخوف من التصوير بالكاميرا والنظر إلى برامج المونتاج كطلاسم، وتعرفت بعد كل تلك الخبرة على صحافة الهاتف المحمول والتصوير بتقنية 360.
وأضاف: "كانت شيرين مجتهدة وتعطي كامل اهتمامها للدروس، وكانت تحب أن تعكس القضية الفلسطينية حتى في الواجبات، فمثلاً ذهبت أنا وهي إلى حاجز قلنديا المقام شمال القدس لتصويره بتقنية 360، لأننا نعمل في مجموعة واحدة في الدراسة، وعملت قصة حول لم الشمل". وأشار إلى أنها لم تكن تخجل من الاستفسار منه أو مشاركة أفكارها معه أو ترحيبها بأفكاره وتقديم المشورة لها.
لم يكن مصور وكالة الأناضول التركية الصحافي هشام أبو شقرة مقرباً كثيراً من الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، لكنه قال لـ "العربي الجديد": "لن أنسى كثيراً من المواقف التي جمعتني بها على بوابات المسجد الأقصى حين منعتنا قوات الاحتلال من التغطية هناك العام الماضي، ولن أنسى إسنادها والدعم المتبادل في الميدان في ظل قمع قوات الاحتلال للصحافيين. كانت توجّه صحافيين بالقول: ديروا بالكم يا شباب، انتبهوا على حالكم".
اجتمعا أيضاً في تجمع الخان الأحمر البدوي، حين بدأ الأهالي وناشطو المقاومة الشعبية اعتصاماً مفتوحاً ضد قرار إسرائيلي بتهجير سكان التجمع عام 2018، وقضى معها وقتاً أطول خلال مرابطة الصحافيين لتغطية أي اقتحام أو هدم للتجمع، حيث قرر أن يخبرها عن جده الذي سمى واحدة من حفيداته على اسمها. وقال إن جده كان يصر على مناداة حفيدته بشيرين أبو عاقلة، وإن الصحافية الفلسطينية سعدت وتأثرت بسماع هذا الأمر. وأكد قائلاً: "كانت شيرين لطيفة بالتعامل، ومتواضعة مع الجميع، وإنسانة محترمة لا تبخل في المعلومة. سنفتقدها في الميدان، ومكانها سيكون فارغاً".