"لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب"... هذه الرسالة الآلية كانت الأكثر تردداً خلال محاولاتي إجراء حوارات هاتفية مع صحافيين يعملون على نقل ما يجري من قلب غزّة، مع مرور أسبوع على العدوان الإسرائيلي، عقب إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى.
إذ تكثف طائرات الاحتلال قصف المنازل والمباني والأحياء الفلسطينية في القطاع، في خطوة باتت تُعرف على نطاق واسع بسياسة "الأرض المحروقة" التي تنتهجها سلطات الاحتلال، تمهيداً لحرب برية متوقعة، وذلك مع استمرار انقطاع الكهرباء، وإعلان وزير الطاقة الإسرائيلي عزمه على قطع شبكة الإنترنت.
لكن مراسل التلفزيون العربي عبد الله مقداد ردّ على هاتفه، وتحدث عن التحديات التي يواجهها وزملاؤه، إذ تعرض مكتبهم للقصف الإسرائيلي، فانتقلوا إلى أحد فنادق غزة الذي قصف بالفوسفور الأبيض، فتوجهوا إلى مجمع الشفاء الطبّي، ثم إلى مجمع مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح. هو وزملاؤه في التلفزيون العربي يصرون على استمرار التغطية، علهم يساهمون في نقل جزء من وحشية الاحتلال بحق الفلسطينيين.
مقداد، وهو متزوج ولديه 3 أطفال، لم ير أسرته منذ الأسبوع الماضي، وقال لـ"العربي الجديد"، إن منزله في مخيم النصيرات تعرّض للقصف، فتفرقّت أسرته التي نجت بأعجوبة من تحت الأنقاض، وتوجه والداه إلى أقرباء لهم، وزوجته وأطفاله قصدوا أقرباء آخرين في منطقة أخرى. كما استشهد ابن خالته بغارة إسرائيلية. وأضاف: "فقدنا كلّ شيء، حتى لمّة العائلة... ولا ندري إلى أين تتجه الأمور. بعد كل عدوان على غزة، كنت أعود إلى منزلي وألتقي بأسرتي، ثم أنام لأكثر من 24 ساعة متواصلة. الآن لا نعرف إلى أين سننزح، خاصة أنه لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة برمته، وفي حال انتهت الحرب وكنّا سالمين، إلى أين سنعود؟".
وعبّر عن قلقه على مصير عائلته، "خاصة بعدما أبلغنا عبر المناشير، ومن خلال بيانات جيش الاحتلال، بمغادرة شمال القطاع ومدينة غزة إلى الجنوب، وتحديداً إلى مدينتي خانيونس ورفح، حتى أن أحدنا جاء بأسرته لترافقه حيث يعمل".
وكشف مقداد أن الصحافيين، ومنذ الانقطاع التام للتيار الكهربائي، يشحنون هواتفهم الخليوية والمعدات اللازمة لضمان البث المباشر من غزة باستخدام بطاريّات السيّارات وشواحن البطاريات المحمولة.
وقال مراسل قناة رؤيا التلفزيونية الأردنية غازي أشرف العالول إن الصحافيين الميدانيين يحاولون نقل ما يجري بينما "عقولهم مشتتة وقلقة على أفراد عائلاتهم". وأضاف العالول: "في الأيام الماضية كنت أخطف ساعة لأطمئن على زوجتي الحامل وطفلتي الصغيرة. الطريق من مجمع الشفاء الطبي حيث أمارس عملي إلى المنزل كانت تستغرق ربع ساعة، والآن باتت تستغرق أكثر من ضعف المدّة بسبب الدمار الشامل".
وأشار إلى أن الأمور تزداد تعقيداً في ظل الانقطاع التام للتيار الكهربائي ولإمدادات المياه عن قطاع غزة، وأوضح قائلاً: "في الأيام الأولى للحرب كنّا نخرج على الهواء مباشرة على رأس كل ساعة، الآن بات ذلك صعباً، حتى أنني خرجت يوماً كاملاً عن البث، بعد استهداف الأبراج المزودة للاتصالات وتأثيرها على شبكة الإنترنت، هذا بالإضافة إلى استهداف الأبراج التي تحوي مكاتب لمؤسسات صحافية، ومنها مكتب رؤيا في غزة، فضلاً عن استهداف الصحافيين مباشرة".
وبكى العالول، الخميس، حين كان يصور انتشال أفراد عائلة كاملة من تحت أنقاض منزلها في جباليا، وكانت من بين أفرادها طفلة لا تتجاوز الثالثة من العمر، "تخيّلت أن ابنتي قد تكون هي التالية"، باح لـ"العربي الجديد".
وتقاطعت شهادة الصحافي عبد الله أبو كميل مع زملائه، علماً أنه يقدم رسائل مباشرة من القطاع لتلفزيون الحقيقة الذي يبث من العاصمة الأردنية عمّان وتلفزيون إيفنت الذي يبث من العاصمة البريطانية لندن، إذ عبّر عن مخاوفه من فقدان أسرته ومن التهجير، مؤكداً أن "الصحافيين في غزة يعملون كل دقيقة، ليس فقط تحت القصف، بل في إطار احتمالات كبيرة للموت".
ولفت أبو كميل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن فظاعة المشاهد التي يصادفها الصحافيون يوميّاً جراء الجرائم التي يرتكبها الاحتلال تجعل من مأكلهم ومشربهم خارج حساباتهم كليّاً، مشيراً إلى أن "الصحافيين يتبعون أقصى درجات السلامة المهنية في حالات الحروب، لكن الاحتلال يستهدفهم مباشرة".
وبالفعل، استشهد 9 صحافيين فلسطينيين منذ السبت جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، وهم: أحمد شهاب، وسعيد الطويل، ومحمد صبح، وهشام نواجحة، ومحمد الصالحي، ومحمد جرغون، وإبراهيم لافي، وأسعد شملخ، ومحمد فايز أبو مطر. كما قتل المصور الصحافي اللبناني في وكالة رويترز عصام عبدالله، الجمعة، وأصيب ستة صحافيين آخرين بقصف إسرائيلي على بلدة علما الشعب الحدودية، جنوبيّ لبنان.
الصحافية المستقلة صابرينا البوجي أكدت، لـ"العربي الجديد"، أن ظروف العمل تزداد صعوبة وتعقيداً مع انقطاع التيار الكهربائي والإنترنت وتعذر الاتصالات الهاتفية، وقالت: "نحن نعيش رفقة جثامين الشهداء، والجرحى، وعويل الأمهات والآباء الباحثين عن أبنائهم، والأطفال المصابين أو الذين باتوا بلا عائلات... ونعمل بلا أمان على الإطلاق في ظل استهدافنا المباشر من الاحتلال".
وبعد 9 سنوات من مغادرة الصحافي سلمان بشير العمل الميداني، اضطر إلى العودة مجدداً للقيام بواجبه في نقل حقيقة جرائم الاحتلال في غزة عبر شاشة تلفزيون فلسطين الرسمي. ووصف بشير، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، ما يحدث في غزة بأنه "يفوق خيال أي مؤلف هوليوودي... الموت قد يطاولك في أي لحظة، وليس ثمة مكان آمن".
وأضاف: "الدم في كل مكان، وتصادفنا الأشلاء طوال الوقت. نكاد نفقد وعينا في كل لحظة، ونتخيل طوال الوقت ما يمكن أن تتعرض له عائلاتنا"، وقال: "تخيلت نفسي ذلك الأب الذي كان يبكي ويصرخ بعد نجاته وحيداً عقب قصف منزله حين كان خارجه... كأنه كان يلوم نفسه لأنه لم يلق مصير باقي أفراد عائلته". وتابع: "ما بين المستشفى حيث أمارس عملي الصحافي وما بين منزلي حيث أسرتي عشر دقائق بالسيارة، لكن كل ثانية في الدقائق العشر هذه غارقة بموت يحلق في المكان، لذلك لم أتوجه للقائهم منذ خمسة أيام، ولا ندري كم سنبقى على هذه الحال".