ارتبط التصوير الفوتوغرافي ببطولة كأس العالم لكرة القدم، منذ أن أقيمت لأول مرة على أرض أوروغواي، في عام 1930، وحتى يومنا هذا؛ إذ قدمت الرياضة الأكثر شعبية في العالم مشاهد بصرية مذهلة لما يقارب المائة عام. ولحسن الحظ، نجح المصوّرون في التقاط معظمها، لتبقى تلك الشذرات دليلاً على ما حدث، وذاكرة لا تمحى من رؤوس محبي كرة القدم ومحترفيها.
لكأس العالم صور بـ "ألف كلمة"، ساهم بعضها في تكريس الهالة المحيطة بأساطير الكرة، مثل بيليه وبليني وكارلوس جوزيه كاستيلو، وغيرهم ممن تُعزى شعبيتهم الواسعة إلى تزامن ظهورهم كلاعبين محترفين مع تطور وسائل البث، تحديداً التلفاز الذي عرض أولى بطولاتهم في كأس العالم عام 1958.
تُسمّر الصور اللحظات الرياضية المميزة، وتمنحها حياة من الأبدية، خاصة تلك التي توثق الهزائم والانتصارات، أشهرها التقط بالأسود والأبيض عام 1950، وتظهر المنتخب الإنكليزي على مدرج طائرة World Airways، بعد أن عاد إلى لندن، عقب فشله في تجاوز المرحلة الأولى من كأس العالم. وأخرى تعود إلى عام 1958، حين حمل اللاعبون البرازيليون العلم السويدي، عقب فوزهم على منتخب السويد في ستوكهولم، اعترافاً بالدعم الذي تلقوه من الجماهير السويدية آنذاك.
أما الصور الأكثر إيلاماً، فهي تلك التي تُلتقط على حواف المروج الخضراء المشذبة؛ بين الجماهير المترقبة أو في كواليس اللعب. هي صور إحباط الجمهور وتجرعهم الهزيمة عقب خسارة مفاجئة، أو إضاعة ركلة جزاء مستحقة. ولعل مونديال عام 2014 يغص بتلك الصور المحزنة، خاصة للجماهير البرازيلية التي فُجعت على أرضها حينها بهزيمة مؤلمة أمام المنتخب الألماني.
هذا العام، يلقى كأس العالم تغطية إعلامية واسعة، سواء عبر مصورين مستقلين أو تابعين لوكالات إخبارية عالمية، إضافة إلى كاميرات المشجعين التي تغطي أحداث الملاعب وما حولها، أو تنقل ردات أفعال الجماهير من داخل منازلهم، وتوثق تفاعلهم مع المباراة التي يشاهدونها عبر شاشاتهم. حتى إن نجوم الكرة أنفسهم شاركوا لحظات حميمة من داخل منازلهم، وهم يحتفلون مع عائلاتهم وأصدقائهم المقربين عقب سماعهم خبر اختيارهم للمشاركة في كأس العالم الذي يعقد الآن في الدوحة.
تجوب الكاميرات الملاعب من كل صوب، وتلتقط حماس المشجعين أثناء اللعب، وفي فترة ما بين الشوطين، وكذلك طقوسهم الاحتفالية قبيل اللعبة، وعقب انتهائها في ساحات المدينة المضيفة وأسواقها ومقاهيها، أو في مناطق المشجعين، حيث يتصرف المشجعون على سجيتهم أمام الكاميرات الصديقة، فيرقصون الدبكة في مواجهة محترفي السامبا البرازيليين، أو يخلعون قمصانهم ويتبادلونها وهم يدغدغون مشاعر المنتخبات الأقل حظاً، أو يحملون كأسهم الذهبية المزيفة بيد، وبالأخرى شراباً اشتروه ونجحوا في إراقته بفعل الحماس. بعضهم تظهره الصور يرتدي أقنعة تعود إلى فنون القتال، أشهرها ذلك الذي يرتديه المصارعون المكسيكيون في مصارعة Lucha Libre الحرة، أو في الحلبات الرومانية القديمة. بعضهم الآخر قرر الظهور بقصات شعر غريبة، أو بطلاء لكامل الوجه والرقبة، ملفوفاً بعلم منتخبه من رأسه وحتى أسفل قدميه. صور لا حصر لها توثق أزياء المشجعين وتعبيرهم عن ولائهم لبلدانهم ومنتخباتهم، فيرتدي مشجعو المغرب قناع الأسد احتفالاً بأسود الأطلس، فيما يحتفل مشجعو سويسرا بخبرة بلادهم في تصنيع الأجبان، من خلال ارتداء أزياء الأبقار في المباراة ضد الكاميرون.
تحتاج اللقطات المميزة إلى كثير من الحظ، بقدر ما تحتاجه من المهارة، لكن البساطة تصنع أجملها أحياناً، كصورة المرشات التي التقطتها إحدى عدسات وكالة فرانس برس في الملعب قبيل انطلاق المباراة بين المكسيك وبولندا. بدا الملعب فارغاً، وحيداً، والمرشات تحرص على إبقائه ندياً قبل اللعبة... أو تلك الصور التي توثق يوميات المشجعين وهم يقودون الدراجات الكهربائية على طول الكورنيش في الدوحة. وصورة تظهر مشجعاً مكسيكياً يلوح بعلم بلاده على الكورنيش ذاته في تشكيل بصري مذهل كان من نصيب كاميرات وكالة رويترز.
تتحدى صور كأس العالم 2022 القوالب النمطية إلى أبعد حدود، وتثبت مقولة شهيرة: "مشجعو الكرة هم الأكثر جنوناً"، سامحة للعالم برؤية الأداء الآخر الذي يمتد من الملعب وصولاً إلى المدرجات، والبيوت أحياناً. وهو أداء لا يخلو من السياسة في كثير من الأحيان، إذ يتصور الأميركيون والإيرانيون معاً في لقطات تتحدى العداء التاريخي. ويرتدي الوافدون الغترة أسفل القبعة المكسيكية، ويظهر العلم الفلسطيني بقوة على المدرجات إلى جانب الأعلام العربية الأخرى. ويحظى لاعبو المنتخبات بنصيبهم من تلك اللقطات الخاطفة أيضاً، عبر كاميرات تترصد أفعال الحاضرين على دكة الاحتياط، وتتبع إيماءات مدربي الفرق ونظراتهم، وتنقل تحضيرات اللاعبين قبيل بدء اللعبة، كاشفة عن هواجسهم وتخوفاتهم أمام ما هم على وشكه.
يتفحّص الكوري الجنوبي سون هيونغ أرض ملعب استاد المدينة التعليمية في صورة التقطتها عدسة أسوشييتيد برس، أما وكالة EPA images؛ فترصد اللاعب الدنماركي راسموس كريستنسن وهو يعيد حذاء اللاعب التونسي إليه في استاد المدينة التعليمية، أثناء لعبهما مباراة انتهت بالتعادل السلبي.
أما صور الجماهير على المدرجات، فغالباً ما تُلتقط مع انطلاق الكرات الخطرة، ففي حين تتسمر الأعين كلها على المرمى لمعرفة مصير الهجمة، يدير متصيدو الصور وجوههم عن تلك اللحظات الحاسمة، ويلتفتون إلى الناحية المعاكسة، حيث تدمع الأعين، تُغلق بحذر، أو تتوارى خلف الأعلام والقبعات والقمصان خوفاً من هدف قد يصيب، أو لا يصيب أبداً.
ينتهز المصورون فرصة الثواني المعدودة تلك لالتقاط ردود أفعال الجماهير وبقية اللاعبين على مجريات اللعب. تبحث الكاميرا عن المفاجآت غير المتوقعة، مجاهدة في التغلب على محدوديتها المكانية، بغية تغطية أوسع مساحة ممكنة، وينجح معظمها في التقاط صور تلامس الجماهير بكل انتماءاتهم الرياضية، لكنها تؤثر أيضاً على لاعبي المنتخبات الذين يتفاعلون معها في معظم الأحيان، آخرها حصل منذ أيام، حين أعطى اللاعب البولندي روبرت ليفاندوفسكي قميصاً موقعاً لمشجع سعودي التقطته الكاميرات وهو يرقص مرتدياً قميص ليفاندوفسكي، بعد إحراز هدف على المنتخب السعودي.
يثري كأس العالم تاريخ البشرية بلحظات تحفر طريقها إلى قلب التاريخ، وتشكل جزءاً صلباً من نواته، وعبر صور تغدو جزءاً من تاريخ اللعبة نفسها، وأكثر خلوداً منها في بعض الأحيان، يُكتب تاريخ مرئي لكرة القدم ومعجبيها، ويُوثق ارتباط الجماهير العميق بمنتخباتهم على أرض الملعب.