لا ريب أنّ الباحث في التراث الموسيقي تأخذه الدهشة من غزارة إنتاج المطرب والملحن المصري الراحل عباس البليدي (1912- 1996). فقوائم التسجيلات المتاحة على شبكة الإنترنت، أو بين أيدي الهواه، تُظهر للرجل ثراء استثنائياً، سواء على مستوى الكم وعدد الأعمال، أو على مستوى النوع وتعدد الأشكال والقوالب. ثم تتضاعف هذه الدهشة ويلفها الغموض عند محاولة البحث عن أسباب منطقية لانحسار اسم البليدي جماهيرياً، واقتصار الاستمتاع بفنه على قلة من متذوقي الطرب القديم، والمهتمين بالأداء الغنائي الكلاسيكي.
تفتّح وعي عباس البليدي في حقبة فنية بلغت فيها الموسيقى المصرية الكلاسيكية ذروة عليا. في عام 1925 كان قد أتم 13 عاماً. وكان المشهد الموسيقي يدين بالولاء لرواد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي مقدمتهم عبده الحامولي ومحمد عثمان. وكانت الذاكرة الفنية ما زالت ممسكة بأسماء مطربين كبار من طبقة يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي، وزكي مراد، وسليمان أبو داود، وغيرهم من سادة الأداء الكلاسيكي، الذين تعتبرهم النخب الفنية النموذج والقدوة والمعيار الذي يقاس به كل من يتصدر للفن الغنائي.
لكنّ رحيل الشيخ سيد درويش ما زال قريباً، وما صاغه من ألحان المسرح الغنائي يسري متدفقاً في الحياة الفنية المصرية. وفي الأفق، لاح نجم محمد عبد الوهاب، معلناً بدء مرحلة غنائية موسيقية مغايرة. وكلها كانت إرهاصات لصراع فني سيدوم لسنوات مقبلة بين "القديم" و"الجديد". ولكلٍ أنصار وأشياع. في هذا السياق بدأت خطوات البليدي، مطرباً كلاسيكياً مكيناً، يمتلك قدرة فائقة على أداء أصعب الأدوار والموشحات. أداء من يسيطر على اللحن، ويمسك بمواطن جماله، ويزجي إلى مستمعين موجات متوالية من الطرب المتدفق.
والبليدي واسع الحفظ، تختزن ذاكرته قدراً كبيراً من تراث الأقدمين، أدواراً وموشحات وقصائد وطقاطيق. اشتهر الرجل لعقود بأنه واحد من أساطين أداء هذه الألوان، فأصبح يُستدعى عند الحاجة لتقديم أشكال الطرب القديم. لكن يبدو أن البليدي كان يقاوم حبسه في صورة محددة، أو احتسابه على زمن مضى، فتعامل بانفتاح كبير مع المتغيرات العميقة التي دهمت المشهد الغنائي المصري، بدءاً من منتصف الثلاثينيات.
لا يعني ذلك أنه قطع علاقته بالموروث، وإنما قدم نفسه باعتباره مطرباً جاهزاً جهوزية تامة لأداء كل أشكال الغناء، من الدور والموشح، إلى المونولوج والأوبريت. لا انتصار "الجديد" يمنعه من أداء القوالب الكلاسيكية، ولا حبه للموروث يعرقل طريقه نحو التجاوب مع "الحداثة المنتصرة".
ولأنه أظهر قدرة فائقة في أداء أنماط مختلفة، سيجد من يستعرض تراثه تنوعاً نادر المثال، فتسجيلات البليدي تضم أدواراً وموشحات وقصائد ومونولوجات وطقاطيق ومواويل وأناشيد وأوبريتات وأغنيات سينمائية، سواء كانت من ألحان الأعلام السابقين، أو الملحنين الذين عاصرهم، أو من تلحينه بنفسه.
النظرة البانورامية إلى ما خلفه البليدي من تسجيلات تجعله عصياً على التصنيف، إذ تضم أعماله أصعب الأدوار القديمة، كما تضم أحدث الأوبريتات والأغاني المسرحية. لكن وضع هذه الأعمال في خط زمني يظهر أن الرجل سار في طريق مزدوج، فلا يمكن أن نقسم حياته إلى مرحلتين مثلاًَ، كما يجرى دائماً مع محمد عبد الوهاب.
قائمة تسجيلاته تكشف عن أدائه المونولوج والأوبريت في الأربعينيات والخمسينيات، وكذلك تكشف عن أدائه الأدوار والموشحات أوائل الستينيات وفي عصر التلفزيون. واكب البليدي موجة الحداثة، لكنه لم يدر ظهره يوماً للغناء الكلاسيكي الطربي المعقد والمتخم بالجماليات.
السجل الضخم للبليدي يفرض على من يتناول مسيرته أن يتخير أعمالاً بعينها، يسوقها باعتبارها أمثلة توضيحية، يشير كل منها إلى مساحة محددة من القدرة الكبيرة لهذا الفنان. الرجل استطاع أن يحتفر لنفسه في عالم الطرب الكلاسيكي مكانة سوغت لكثيرين أن يذكروه مقروناً بصالح عبد الحي، ولا سيما بعد ظهور تسجيلات صوتية ومرئية تتجلّى فيها إمكاناته المبهرة، وتوضح مدى تفوقه في أداء القوالب الأصلية للغناء العربي.
ولعل أداء البليدي لدور "أنا هويت وانتهيت"، الذي لحّنه سيد درويش، يعدّ من تلك الأمثلة التي تهتف بالمستمع: هكذا تؤدى الأدوار، وهكذا يكون غناؤها، بتفاصيلها من مَذهب ودور وآهات وهنك، ومساحة للتصرف داخل اللحن لا خارجه، وإظهار العفقات والحليات والزخارف.. وكل ذلك لا يصدر إلا عن صاحب صوت مطواع طال مراسه لهذه الفنون العالية.
في أدائه لـ "أنا هويت" أظهر أداء البليدي خصائص الدور، وهو ما يمكن أن يتضح بالمقارنة مع أداء عدد من الأسماء اللامعة الكبيرة لهذا العمل، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وفيروز، وسعاد محمد. فأداء هؤلاء الكبار للدور كان أقرب إلى أساليب الغناء الحداثي وليس الكلاسيكي، والدور بطبيعته وخصائصه يتعارض مع هذه الأساليب.
دخل البليدي إلى مذهب "أنا هويت"، مدخراً طاقاته الصوتية والأدائية إلى المراحل التالية، ولا سيما "الآهات" وجملة الترديد و"الهنك". وأظهر سيطرة فائقة في عملية التبادل مع الكورال، وزين غناءه بنقرات عوده التي يعي جيداً متى يمنحها الزخم والنفوذ ومتى يخففها لتتلاشى كأن لا وجود لها. وإجمالاً، استطاع الرجل المكين أن يقدم الصورة الأكمل لأداء هذا الدور الدرويشي المشتهر.
بعدما هيمن الغناء الحداثي الخالي من التعقيدات، وبعد أن أصبح مطربو هذا اللون هم نجوم الساحة الغنائية، وندرة الأصوات القادرة على أداء القوالب الكلاسيكية، صار عباس البليدي ملجأ وملاذاً تفرضه الحاجة إلى إحياء ذكرى قدماء الملحنين، من أمثال عبده الحامولي ومحمد عثمان وأحمد أبو خليل القباني وسلامة حجازي وسيد درويش وداود حسني. كان الرجل عضواً عادياً في معهد الموسيقى، لكنه كان نجم كل محفل يستلزم أداء الأدوار والموشحات والوصلات الشرقية، وكان يعلم أن ليس كل مطرب قادراً على أداء هذا اللون.
وفي حديث إذاعي، شكا البليدي من تجاهل الوسط الفني لإمكاناته، وعدم استعانتهم به إلا عند الاضطرار، كما شكا من إهمال الإذاعة بث تسجيلاته، أو اختيار أوقات "ميتة" لإذاعتها. سأله مقدم البرنامج: أين أنت؟ فقال أنا موجود، يطلبونني فقط عند الاحتفال بذكرى القدماء. وأكد أنه يمارس التلحين منذ تخرج من معهد الموسيقى عام 1936. وعندما سُئل عن اللون الذي يمثله فنياً، أكد أنه يمثل القديم والحديث معاً، واستشهد بتلحينه عدداً من الأوبريتات وأعمال للأوركسترا. وقعت معه شركة "صوت القاهرة" عقداً فنياً، ثم تجاهلته ولم تطلبه للتسجيل.
تتلمذ البليدي ست سنوات في معهد الموسيقى، ودرس الموشحات على يد شيخها الأول درويش الحريري، ودرس الأدوار على فؤاد الإسكندراني وإبراهيم عثمان، نجل الرائد الموسيقي محمد عثمان. كما درس العود في مرحلته الأولى على يد عباس مكاوي، قبل أن يتتلمذ لصفر بك علي، وكيل معهد الموسيقى. كانت هذه الدراسة أقوى صقل لموهبة البليدي، فصار يؤدي أصعب الأعمال، إذ يضع كلّ عربة وحلية في موضعها، كما تعامل مع عدد من الموسيقيين البارزين، في مقدمتهم عازف القانون الأشهر إبراهيم العريان.
شارك البليدي بالغناء في عدد من الأفلام السينمائية منها: "العامل" عام 1943، و"عنتر وعبلة" عام 1945، و"ابن النيل" عام 1951، و"بيت النتاش" عام 1952. طرح نفسه دائماً باعتباره متطوراً قابلاً لما يطرأ على الغناء والألحان من تجديد، بل إنه في ألحانه كان حداثياً إلى أبعد الحدود. ورغم حبه الشديد للقوالب الكلاسيكية، إلا أنه اكتفى تجاهها بالأداء، ولم يخض أي محاولات لتلحين الأدوار أو الموشحات.
ومن أغنياته التي نالت حظاً كبيراً من الشهرة والانتشار "عديها يا معداوي"، من كلمات أحمد سمرة وألحان خليل المصري، ويمكن اعتبارها مثالاً لمجاراة البليدي الموجة الحداثية الطاغية، تلك المجاراة التي حاول البليدي تأكيدها من خلال اهتمامه بالأوبريت المسرحي أو الإذاعي، وتقديم الألحان السينمائية.
في صباه، انتقل البليدي من مدينة دمياط إلى مدينة شربين القريبة، وهناك اشتهر بأنه الطفل صاحب الصوت الجميل، الذي يقلد أم كلثوم وعبد الوهاب. وكان مأمور المركز يستدعيه ويجمع له الوجهاء والأعيان ليغني لهم، فيعجبون ويطربون. وباقتراح من المأمور تقدّم البليدي لامتحان القبول في معهد الموسيقى العربية، ليجد نفسه أمام لجنة مكونة من أساطين المعهد: مصطفى بك رضا، وصفر بك علي، والقانونجي مصطفى العقاد، والموسيقار محمد عبد الوهاب. رسب كل المتقدمين، ونجح البليدي بترجيح عبد الوهاب، مع شرط أن يتعلم العود.
بعد سنوات، تخرج البليدي بتفوق، وقدّم أعمالاً لأشهر ملحني عصره، وفي مقدمتهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي وداود حسني وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبد الحميد توفيق زكي وخليل المصري ورؤوف ذهني ومحمد الموجي وعبد العظيم محمد وحسين جنيد.
سطع نجم البليدي في سماء القاهرة منذ أواخر الثلاثينيات، وامتدت رحلته الفنية بالغة الثراء خلال الأربعينيات والخمسينيات، لكنّه مع انتصاف عقد الستينيات سقط من الذاكرة الإعلامية المصرية، فنسيته الجماهير.
وبعد سنوات من التجاهل، رحل عباس البليدي في منزله في منيل الروضة بالقاهرة في سبتمبر/ أيلول عام 1996. ثم جاء عصر الإنترنت، فأعاده مرة أخرى إلى أوساط الهواه والسميعة، بعد إتاحة عشرات الأعمال بصوته، وبعد ظهور عدد، وإن قليل، من التسجيلات المتلفزة، التي يؤدي فيها الرجل تلك القوالب الكلاسيكية المحببة إلى نفسه.
في ظلّ هيمنة الاتجاه المناقبي، والمديح المجاني على الصحافة الفنية والبرامج الموسيقية في بلاد العرب، انتشرت عبارة "أدى كل القوالب الغنائية"، وأصبحت وصفاً لكل مطرب يتصادف أن يكون موضوعاً للكتابة أو المناقشة. لكنّ حقائق التسجيلات تؤكد أنّ الأغلبية الساحقة من كبار المطربين لم يتصدوا لكلّ القوالب الغنائية، وأنّ من يستحق منهم هذا الوصف ليسوا إلّا قلة نادرة، ومن بين هذه القلة استطاع عباس البليدي أن يحجز لنفسه مكاناً متقدماً.