مصائب متلاحقة تنهمر على أب وابنه الشاب، في ليلة واحدة. خدمة صغيرة تتحوّل إلى حِمْلٍ ثقيل. مغامرة غير متوقّعة، ورحلة ليلية تبدو في مستهلّها بسيطة، لكنْ ما يطرأ عليها من تعقيداتٍ، ساعة تلو أخرى، يجعل الخلاص بالغ الصعوبة، وما كان متاحاً الخروج منه في البداية بات، أكثر فأكثر، متاهة خانقة.
موضوعٌ ليس جديداً في السينما. أحداثه قد تكون مُتوقّعة أيضاً، أقلّه في جزءٍ كبير منها. "عصابات" (2023)، أول روائي للمغربي كمال لزرق، نظرةٌ جديدة حميمية على مدينة وأهلها، واقتراب من أناسٍ ليسوا أسيادَ مصائرهم. فيلم إثارة، يستكشف عالماً مخفيّاً، ويلفت الانتباه بإخراج ذكيّ يستحق ما كُرِّم به أخيراً، بنيله جائزة لجنة تحكيم "نطرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
لن يكون المشهد الليلي، الذي استُهلّ به "عصابات"، استثناءً. فالليل يُشكّل زمن السرد كلّه تقريباً، إلا في مشاهد عدّة تنقشع فيها ظلمته، ويظهر ضوء يومٍ جديد، قد يكون مُحمّلاً بمفاجآت وصراعات جديدة، سيكون أبطالها أفراداً كهؤلاء في المشهد الأول، مشتبهاً فيهم، بنظرات قاسية وابتسامات شريرة، يتابعون متعة مستمدّة من تنظيم مباريات تصارع كلاب في أحياء عشوائية، وتصفية آخرين، وارتكاب موبقات تحت جنح الليل. شخصيات هامشية، متشابهة في مظهرها، تبرز وجوهها فجأة من عتمة صاخبة بفرح مؤقّت بعد انتهاء المبارزة.
في إحدى هذه المباريات، ينحني رجلٌ على كلبه بأسى كبير. يودّعه بعد مصارعةٍ يُنهش فيها، فتهمد حركته. يُقرّر الانتقام، لكنّه لن يسعى لتنفيذه وحده، فلديه رجال "صغار"، ينحصر مصدر رزقهم في المهمات الصغيرة القذرة. يُكلّف حسن (عبد اللطيف مستوري) إحضار غريمه، ليتكفّل هو بها على طريقته. إلى هنا، يشوب السرد شيء من غموض وتكثيف، عن هذا الصراع، وموت الكلب في أجواء مثيرة بزحمة أطياف وهيجان وصرخات في ليل. أجواء أفلام عصابات بشخصيات قذرة، وأمكنة معتمة. ثمّ ينحو الفيلم باتجاه شخصيتين: حسن الأب، وابنه عصام (أيوب العائد)، ما يمنحه بُعداً آخر، واستقبالاً مغايراً.
هذا الوجه البائس المتعب، والجسد النحيل، والشعر الفوضوي للأب، يُقابله وجه وسيم، وسمات طيّبة مع شيءٍ من حزم، للابن. يُسيطران تماماً على الشاشة، بحضورهما وأدائهما المُذهل بدرجة إقناعه، وبما يثيرانه من تعاطف واهتمام. اختار لزرق، ووُفِّق تماماً في اختياره، ممثلَيْن غير محترفين، حملا "عصابات" على كاهليهما. ساعدهما في هذا نصٌّ جيد، وبناء سردي كلاسيكي مُشوّق، قام على تطوّر تدريجي في الحدث، ليصل إلى ذروةٍ، تبدأ بعدها الأمور بالحلّ.
يسكن الأب والابن في ضاحية شعبية للدار البيضاء. يقومان بعمليات تهريب، على نطاق صغير، مع عصابات محلية. حين يُكلَّف حسن، في تلك الأمسية، خطف قاتل كلب زعيم العصابة، يقنع ابنه بمرافقته في تنفيذ المهمة. لكنْ، ما كان يُفترض به أنْ يكون مجرّد عملية اختطاف بين بلطجية، سريعة وسهلة نسبياً، ينتهي من دون قصد برجل مختنق في سيارة. يبدأ الأبّ وابنه بالتجوّل في ضواحي المدينة وريفها المظلم، في سيارة متهالكة، بحثاً عن حلّ لإخفاء الجثة، والتخلّص من جريمة غير متوقّعة.
في هذه الرحلة الليلية، بأسلوبٍ يُشبه الواقعية الإيطالية، يظهر قاع المدينة وعوالمها، بمَن فيها من حشّاشين ومجرمين ورجال عصابات، وبما فيها من معارك بين كلاب عدوانية، وشرطة مرتشية تقيم الحواجز. لا تغفل الكاميرا، بدورانها في أحياء الضواحي الفقيرة، مروراً عابراً ومُعبِّراً على بيت بورجوازيّ، يهتم صاحبه بغلمان هذه الأحياء، الذين يبيعون أجسادهم. لكنْ، ما يضيف للفيلم غنى وحميمية، ويبعده عن مجرّد محاولة توثيق هذه العوالم السفلية السرية، إحاطة كمال لزرق شخصياته، بخاصة الأب والابن، باهتمامٍ كبير، يُبدي عبره العلاقة بينهما وتطوّرها، وتأرجحها بين اقتراب ونفور، وطاعة وتمرّد، بحسب ما تفرضه عليهما الأحداث، والطارئ الذي يُقرّر خطّ سيرهما وفعلهما.
عبر هذه العلاقة، تتبدّى مفاهيم الدين والمعتقدات الشعبية والرجولة لدى هذه الطبقة، وتظهر قوّة التضامن، العائلي والمجتمعي. تضامن ابن مع أبيه، وعدم التخلّي عنه في محنة، وضع نفسه فيها. تضامنٌ سيكون الدافع الأول لعصام ليفعل ما لا يرغب في فعله، ليس بسبب خشيةٍ، بل لنفورٍ من العملية كلّها. تتشابك الدوافع في نَفْس الفتى، من خوف على الأبّ العشوائي في تفكيره وسلوكه، ومن اتّهام له بعدم تحلّيه بصفات الرجولة، التي تستوجب مجابهة المخاطر، فيرمي نفسه في التهلكة، ويقبل مشاركة والده هذه المغامرة حتى النهاية.
العلاقة مُعقّدة بين الأب والابن، لا يسودها شرح أو كلام، إلاّ نادراً. لكنّ تعابير الوجهين تبدي الكثير. هنا، تظهر قوّة أداء هذين الممثلين غير المحترفين. وجهاهُما نابضان بالحياة، يُعبّران بدقة شديدة عن الأسى والتحدّي، والاستسلام والانهيار. مواقفهما تراوح بين جدل وخصام، وصلح وقطيعة. يتركان أكبر الأثر، والتعاطف معهما على أشدّه في مغامرتهما الحمقاء، ومحنتهما التي بدت عبثية، بل مضحكة، أحياناً كثيرة.
يلجأ كمال لزرق إلى لمحات من الطرافة، تأتي دائماً في الوقت المناسب، للخروج من توتّر وتصاعد في الحدث، كالمشهد الذي يقرّر فيه الأب، بعد سؤال مفاجئ لأمه العجوز، الشخصية النسائية الوحيدة في عصابات، عن تكفين الميت المقتول بحسب الشريعة الإسلامية. يُقرّر فعل ذلك، لتزيد هذه الطقوس في عبثية موقف ولا معقوليته، ولتضفي على "عصابات" هزلاً وخفة، مع كل أحداثه الثقيلة الخفيفة وسوداويته كفيلم جريمة.