"ليس هذا بورتريه للمخرج عمر أميرالاي، ليس مقطعاً عرضياً في المجتمع السوري الحالي، ولا مقطعاً طولانياً لمصير أجيال عبر خمسين سنة تحت نير نظام سياسيّ واحد، ليس حواراً حميماً وحراً بين صديقين يحملان في قلبيهما جمرة السينما وعشق الحرية، ليس شهادة لحب ابن لأمّه ولإيمانه المطلق بالعدالة، إنه فيلم يطمح لجمع كل هذا بما يشبه جديلة شعر لصبية سورية جميلة".
بهذه المقاربة قدّمت المنتجة كليمانس كريبان نيل فيلم "عمر أميرالاي: الحزن والزمن والصمت" الذي عُرض ولأول مرة في المنطقة العربية في العاصمة اللّبنانيّة بيروت يوم الأربعاء 26 يوليو/ تموز الماضي، في متحف سرسق، بحضور مخرجته السورية هالة العبد الله.
لا مفر من الفقد؛ هذا هو الأثير الطافي حول أفلام العبد الله. إنّه قنطرة التبرير لاختيارها المخرج السّوري أميرالاي (1944 ــ 2011) محورًا أو حاملًا لفيلمها الأخير. تتالت أفلام المخرجة بدايةً من "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها" في العام 2006، و"مهلا، لا تنسي الكمّون" عام 2008، و"كما لو كنا اصطياد كوبرا" (2012)، و"محاصرٌ مثلي" (2016)، وصولًا إلى "عمر أميرالاي: الحزن والزمن والصمت" في العام 2020.
في كلٍّ من هذه الأفلام كانت العبد الله تطلق رسائلها عبر الكاميرا، علّها تصل إلى أشخاص لم تؤجلهم الحياة، ولم يُبعدهم الموتُ رفّة قلبٍ عن الفتاة ذات السبعة والستين عامًا. فمن الشاعرة دعد حداد، والقاص جميل حتمل، مرورًا بالكاتب والمؤرخ فاروق مردم بيك، وأخيرًا المخرج عمر أميرالاي.
هؤلاء هم جزء من الذاكرة الثقافية السورية التي كانت تنبض في حراكاتها المتنوعة، لتفرز واقعًا سياسيًا ثقافيًا مُفسدًا لأيّ فكر مغلق أو نظام شمولي. بِعَتَلات الترهيب والتغييب والنفي والاعتقال والتحجيم. عُرقلت سيرورة الفكر والثقافة والسياسة وتأثيراتها الاجتماعية، وأيضًا اقتلعت جذور كلّ ما من شأنه أن يُنبت هكذا اتجاهات أو يذكّر بجيل غير مرغوب فيه في تاريخ سورية الحديثة، وفي فكر بانيها "الأب المناضل".
على منبر متحف سرسق في بيروت وبعد انتهاء عرض فيلم "عمر أميرالاي: الحزن والزمن والصمت" استوت هالة العبد الله في جلستها استعدادا لنقاش فيلمها آنف العرض، فيما لا يزال صوت عمر أميرالاي يتردد في أرجاء الصالة، وعالقًا في أذهان الحاضرين يُطلق وصيَّته، بحسب قول العبد الله. وقد أشارت هذه الأخيرة في حديثها إلى أنها "تعرفت على عمر أميرالاي في نادٍ سينمائي في دمشق حيث كان أحد المشرفين عليه، وكنت آتي بعد عرض الفيلم لأستمتع بالنقاشات المحتدمة".
أما أنا، فتعرّفتُ على أميرالاي من خلال مجموعة من الأصدقاء، ممّن حاولنا معًا تأسيس فريق ثقافي في العام 2007، حين كان المخرج السوري قد أطلق فيلمه الأخير "طوفان في بلاد البعث" قبل أربعة أعوام. لم نصدّق حينها أنّ أحداً ما يمكن أن يكون بهذه الجرأة، وعلى نحو يرمي – وبشيءٍ من الجنون - جانبَ الحذرِ إزاء مواجهةِ ما يتعلقُ بالسّياسة، أو الواقع الاجتماعي المعيشي البائس، والفاضح للفساد المستشري والإهمال المقصود، وحيث اللامبالاة من قبل الدّولة تجاه كلّ ما كانت سورية بحاجةٍ إليه، من نموّ للعدالة المتساوية والحقوق المشروعة لدى الجميع، وهو الأمر الذي ينافي سلوك النظام الاشتراكي المنفصل عن الواقع في سورية.
هذا ما قاله أميرالاي بشكلٍ واضح في أفلامه التي بدأت تصل إلى أيدينا تباعاً - وبكثير من الحسبان والوضوح أيضًا - مع هالة العبد الله حين قال وهو يقارن بين الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي: "في الفيلم الروائي نُلبس المؤدِّي أو الممثّل قناعَ الشخصية المطلوبة، بينما يتحرّى الفيلم التسجيلي الوجه الحقيقي بلا أي غشاوة". هذا ما وقع فيه عمر نفسه، بشخصيّته الطريفة، أمام كاميرا العبد الله التي بدأت تُذيب كلّ ما هو حائل بيننا وبين أن نتعرف أميرالاي، وكما يقال على "بساط أحمدي".
في اليوم الثاني من برنامج متحف سرسق، عرضت أفلام أميرالاي: "طبق السردين"، و"هناك أشياء كثيرة يمكن أن يتحدث عنها المرء"، ومن ثمّ فيلم "الدّجاج".
يدور الفيلمان الأوّل والثّاني حول الصراع العربي الإسرائيلي، وفي كليهما لم يتطرق أميرالاي لسرديّة البطولات والتمجيد والتنديد، بل اتجه نحو تشريح شخصية العربي المهزوم والمخذول بسبب انسياقه خلف خطابٍ سياسي خادع لطالما أخفى مآرب غير معلنة. برائحة السردين المرتبطة لديه بذكر كلمة "إسرائيل"، جسّ المخرج السّوري الرّاحل عفونة تعاطي الأنظمة العربية مع قضيةٍ يكبرها أميرالاي نفسه بأربع سنوات، بل وكان شاهداً على منعطفاتها. أمّا الفيلم الثاني فقد كان الكاتب السوري سعد الله ونوس شاهده على عُمْرٍ من الهزائم والخذلان المتتالي.
والفيلم الأخير كان "الدّجاج"، وقد تناول فيه أميرالاي، وبشكل مكثّف من السخرية والاستهزاء؛ حياةَ أهالي إحدى المدن السوريّة المهملة والمتروكة لمصير اقتصادي ومعيشي مجهول، بغية التدليل على عشوائية الحلول لدى الحكومة، وبُعدها الكارثي عن الواقع.