التعامل العربي مع جائزتي "أوسكار" السينمائية، في فئة أفضل فيلم دولي، و"نوبل" للأدب، تحديداً، يتكرّر عاماً تلو آخر. التعامل واحدٌ، فالهوس العربي بهاتين الجائزتين مُثيرٌ للارتياب، بقدر ما يكشف عن خلل في التفكير، إذْ يُصبح الهوس بهما أهمّ من الإنجاز والاشتغال وإعمال العقل والتحديث والتجديد. هوسٌ يُقارِب، أحياناً، حدّ الجنون، كأنّ الجائزتين خلاصٌ من جحيمٍ، أو مدخلٌ إلى اعتراف دولي، أو لحظة انتصار على عدوٍّ. كأنّ الجائزتين تأكيد على عبقرية، يريد صاحبها من إحداهما إشاعتها في العالم. كأنّ الجائزتين سبيلٌ وحيد إلى الآخر، من دون أدنى تنبّهٍ إلى القيم المختلفة، التي يُفترض بالإنجاز أنْ يمتلكها، قبل الجائزتين، ومن دونهما، فالإنجاز أهمّ منهما دائماً.
عربٌ عديدون مهووسون بقشورٍ. الجائزتان، رغم أهميّتهما الإعلامية والمالية، مُتردّيتان منذ أعوام، لإصابة المؤسّستين اللتين تمنحانهما سنوياً بترهّلٍ. إنجازات فائزة، متفاوتة الأهمية الأدبية والفنية، لكنّها غير بالغةٍ مرتبة الإبهار بنصٍّ مختلف. هذا غير شاملٍ. إنجازات أخرى فائزة تمتلك حساسيّة جاذبة إلى القراءة/المشاهدة، والتمتّع أحياناً بالقراءة/المُشاهدة.
المؤسّستان معطوبتان، والفضائح المتعلّقة بـ"نوبل" غير خفيّة، بينما "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" في هوليوود تضمّ، في لجنة الـ"أوسكار"، أعداداً هائلة من عاملين وعاملات في صناعة السينما، من جنسيات وفئات وانتماءات مختلفة، بحجّة الانفتاح على الجميع، ما يؤدّي إلى فوضى الانتساب. اتّهام الأكاديمية بعنصريةٍ، منفلشةٍ على العِرق واللون والهوية تحديداً، يجعل "سبب" اختيارها أعضاءً جدداً منبثقاً من هذه كلّها، لإيجاد تساوٍ ما، بعيداً عن فعالية المُنتسِب/المُنتسِبة، وبلاغتهما السينمائية في الحقول كلّها لصناعة الأفلام.
ترهّلٌ ما يُصيب "مؤسّسة نوبل"، إذْ يُتَداول مراراً أنّ فيها نوعاً من فساد مالي وفضائح جنسية. هذا ينعكس، أحياناً، على آلية الاختيارات، التي (الآلية والاختيارات) تُناقَش. الفوز بها مُثير لنقاشٍ، يُفترض به أنْ يكون نقدياً صرفاً، فبعض الجوائز السابقة أقلّ أهمية من نتاجٍ أكبر. التعامل العربي مع جائزة "نوبل" محصورٌ بالأدب فقط، وهذا يعكس فداحة التراجع العربي في حقول العلم والمعرفة، بينما الأدب يفرض سطوته على كثيرين وكثيرات، والمعاينة النقدية الدقيقة للمشهد العام تقول إنّ كثرة الإصدارات غير حاجبةٍ طغيان العاديّ، أو الأقلّ منه، غالباً.
الأدب العربي مهموم بالجوائز، المنتشرة في أكثر من دولة عربية، والمُحمّل بعضها بمبالغ مالية يتوق إليها عربٌ كثيرون. مراجعة الجوائز الأدبية والفكرية، الممنوحة لعربٍ من جهات رسمية عربية، تكشف، غالباً، اختلالاً بين ندرة الإنجازات التي تستحقّ جوائز، وكثرة الأعمال المُنجزة، وبعض هذه الأخيرة يختص أصحابه بتأليفٍ يليق بجوائز، يجهدون في السعي إليها، بعيداً عن قِيَم أدبية وفنية وتقنية وجمالية، يجب أنْ تصنع الإنجازات، بدلاً من أنْ تصنعها الجوائز المالية.
هذا، أيضاً، غير شامل. الشمولية مَقتلٌ. المشهد العام يعكس شيئاً من ندرة التجديديّ والمختلف في التأليف الأدبي العربي. المشهد نفسه يقول بهوس عربي بالجوائز، بدلاً من اهتمام أكبر بمضامين المؤلّفات وأشكالها وتفاصيلها، وبكيفية رفع نسبة القراءة، في عالمٍ عربي يزداد فقراً وجهلاً وأمّية، وهذا غير محصورٍ بفئات من الناس، إذْ ينسحب أيضاً على عاملين/عاملات عرب في حقول الثقافة والفنون والعلوم والبحوث.
الهوس العربي بـ"نوبل" غير مُحتَمل، تماماً كذاك المعنيّ بـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبيّ. مع "نوبل" للأدب، لا ترشيحات رسمية تسبق موعد إعلان الجائزة، واسم الفائز/الفائزة بها. هناك توقّعات تتكرّر سنوياً، مع اتّهام عربي، متكرّر أيضاً، يُفيد بأنّ أيَّ عربيّ يفوز بها، كما بغيرها من الجوائز الغربية، متواطئ مع الامبريالية والصهيونية، ومتسامح مع دولة إسرائيل. لا أحد من المتَّهِمين/المُتّهِمات يكترث بالنتاج ومضمونه وأشكال التعبير فيه وصناعته. تجربة نجيب محفوظ ماثلةٌ، إلى الآن، في أذهان كثيرة. رغم هذا، يُروّج كتّابٌ/كاتبات عرب لأنفسهم، بوسائل غير مباشرة، للقول إنّ كل واحد منهم/منهنّ يستحق هذه الـ"نوبل".
لـ"أوسكار" هوليوود ترشيحات رسمية، يُعلَن عنها بعد عمليتي اختيار في الأكاديمية: أولى تُغربل المُرسَل كلّه إلى الأكاديمية، لاختيار ما يُعرف بـ"اللائحة القصيرة"، التي تحتوي على 10 خيارات (بدءاً من عام 2020)؛ وثانية، أي تلك التي تمنح الأفلام المختارة صفة "ترشيح رسميّ"، تضمّ 5 أفلام فقط. جهات سينمائية أو ثقافية رسمية، في البلد الأصلي لكل فيلمٍ أجنبي/دولي، تختار ما تراه مناسباً لإرساله إلى الأكاديمية، شرط أنْ يُعرض تجارياً في صالات ذاك البلد، في العام السابق على موعد إعلان الجوائز.
المأزق كامنٌ في تعامل عربيّ يُصرّ، رغم توضيحات سنوية مُهتمّة بدقّة المعلومات، على أنّ اختيار بلدٍ عربيّ لفيلمٍ عربيّ يُتيح وسمَ المُختار بـ"ترشيح" لـ"أوسكار". هذا يعني "تمثيل البلد" في الـ"أوسكار"، وهذا "التمثيل" يحتاج إلى نقاشٍ آخر، فالفيلم لن يُمثّل بلداً عربياً يقمع الثقافة والفنون، أو ـ على الأقلّ ـ غير مُكترثٍ بها، وغير داعمٍ لها من دون تسلّط ورقابة ومنع وترهيبٍ. الفيلم، كلّ فيلمٍ، يُمثّل صانعه، مخرجاً وكاتباً أولاً وأساساً، خاصة إنْ يكن الفيلم مغايراً للتجاري ـ الاستهلاكيّ.
الهوس العربي بـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي (الجائزة تُعرف أيضاً بـ"أفضل فيلم أجنبي"، بعد تسميتها بـ"أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية") غير متساوٍ مع هوسٍ بصنيعٍ سينمائيّ يتميّز عن غيره بجانبٍ أو أكثر، في الاشتغالات والتفكير والتأمّل والسجال الضمني. الشعور بفرح اختيار فيلمٍ عربيّ وإرساله إلى "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" طبيعيّ وجميل، فالنقد سابقٌ عليه، أو لاحق به. عملية الاختيار بحدّ ذاتها، في بلدان عربية مختلفة، تشي بفسادٍ، أو بعدم حِرفيّة، أو بعلاقات ومصالح. مشاركون/مشاركات في لجان الاختيار، التي يُشكّلها أناسٌ يعملون في وزارات الثقافة أو المؤسّسات السينمائية، يختارون أفلاماً قابلةً للتوزيع التجاري، أو غير ممتلكة شرطها الإبداعي، وهذا لضروراتٍ غير مرتبطة بالسينما واشتغالاتها، غالباً.
أحياناً، تعجز لجان كهذه عن الاختيار، كالحاصل في مصر أعواماً قليلة فائتة، فيبدأ سجالٌ، مُتكرّر أيضاً، يتناول أسباب عدم الاختيار، ويُحمِّل صناعة السينما والعاملين/العاملات فيها مسؤولية ذلك، فهؤلاء، بالنسبة إلى لجنة الاختيار، غير مبدعين وغير بارعين في صُنع ما يليق بمصر في محفل دولي، لا بما يليق بالسينما، أولاً وأساساً.
في هذا، جانبٌ واقعيّ، فالتراجع حاصلٌ، رغم أنّ أفلاماً عربية عدّة تمتلك شرطها الإبداعي، كتابة ومعالجة واشتغالاتٍ. أفلامٌ عربية تحضر في المرحلة الأولى لـ"أوسكار" 2023، كـ"دفاتر مايا" (لبنان) لجوانا حاجي توما وخليل جريج، و"حمى البحر المتوسط" (فلسطين) لمها حاج، و"فرحة" (الأردن) لدارين ج. سلاّم، وغيرها. هذه أفلام تُناقش نقدياً، ففيها متعة مُشاهدة، ومسائل حسّاسة ومهمّة، مع التنبّه إلى فروقات في مستوياتها السينمائية المختلفة.
جائزتان دوليّتان غير مُتحرّرتين من وطأة السياسي والثقافي والاجتماعي في العالم، فتُمنحان أحياناً لأسبابٍ، غير متعلّقة بالأدب والسينما فقط. هذا غير مرتبطٍ بأي قراءة نقدية للمُنجزين الأدبي والسينمائي. هذه ملاحظات قابلةٌ، بدورها، للنقاش.