كفيلمها السابق، "حب برّي" (2018)، تُفكِّك الفلسطينية جومانا منّاع، في جديدها الوثائقيّ "اليد الخضراء" (2022) حالةً واقعية ويومية، مرتبطة مباشرة بحياة أناسٍ ومجتمع، وتكشف وقائع عيشٍ يلتزم مواجهةً، رغم كلّ قمعٍ منبثقٍ من قانونٍ يصنعه عدوّ محتلّ، فارضاً إياه عليه بقوة الاحتلال.
في الأول، معاينةٌ لمسار حبوبٍ يحتاجها المرء، ومصيرها، في زمن حربٍ سورية، وانقساماتٍ وقهرٍ، وفي لحظة انعدام أفقٍ، أو احتمال انعدامه. في الثاني، التقاطٌ بصري لمواجهةٍ فلسطينية مع محتلّ إسرائيلي، ينهب تاريخاً وجغرافيا واجتماعاً وحياةً، بوسائل كثيرة، أبرزها قانون إسرائيلي يمنع الفلسطيني/الفلسطينية قطف الزعتر والعكّوب، جاعلاً إياهما جزءاً أساسياً من هويته.
السرقة والتزوير والخداع مسائل أساسية يكشفها "اليد الخضراء"، لكنّها ظاهرةٌ بمواربة بصرية مشغولةٍ بحرفية سلسة. السياق عادي: مرافقة فلسطينيين/فلسطينيات في يوميات المواجهة الدائمة مع المحتلّ الإسرائيلي، عبر قصة العلاقة الفلسطينية/اليهودية ـ الإسرائيلية بهاتين النبتتين، والعكّوب أكثر حضوراً، وللزعتر وجودٌ أيضاً. للفلسطيني/الفلسطينية أرضٌ تُسرق، وهذا يعني أن نباتاتٍ تُسرق بدورها، كما التاريخ والثقافة والحياة. للإسرائيلي/الإسرائيلية رغبةٌ في نهبٍ متواصل، بهدف جعل الأرض له، بكل ما فيها من تاريخ وجغرافيا وثقافة ومقوّمات عيش.
البناء البصري غير مُدّع، فقواعده التقنية والفنية متكاملةٌ في سرد الحكاية. والحكاية، لكونها جزءاً من عيشٍ يمتلك في عمقه صراعاً دائماً مع المحتلّ الإسرائيلي، تقول إنّ المواجهة حياة، والجهد مبذول، بعفوية وبساطة، في حماية تاريخ وبلدٍ وتفاصيل، والأخيرة متعلّقة بكلّ شيءٍ يومي، منبثقٍ من فعلٍ يومي يمارسه فلسطينيون/فلسطينيات يُصرّون على قطف الزعتر والعكّوب، ويواجهون "قانوناً" يحتمي فيه المحتلّ، فهناك قرارات إسرائيلية (لائحة "النبات المحمي") تفوِّض السلطات بمعاقبة مخالفي اللائحة، التي تضمّ الزعتر والعكّوب (لربيع إغبارية، المتعاون مع جومانا منّاع في إنجاز "اليد الخضراء"، مقالة بعنوان "لماذا تخشى إسرائيل الزعتر والعكّوب"، منشورة في موقع "فسحة"، في 5 أغسطس/آب 2017، توضح وقائع المسألة).
معطيات تاريخية وقانونية واجتماعية مُعلنة بما لا يتعارض والسرد السينمائي، في وثائقيّ يجمع نصّه البصري وقائع ومحاكمات وتحقيقات، بنمط عيشٍ فلسطيني، يُصرّ أناسه على قطف النبتتين، فهما فلسطينيتان وأساسيتان في المطبخ الفلسطيني، وبعضهم غير مكترثٍ كلّياً بقرارات المحكمة: غرامات مالية تصل إلى 6 آلاف شيكل (كلّ شيكل يساوي 0.27 دولار أميركي)، و/أو اعتقال تصل مدّته إلى 30 يوم سجن، مع إمكانية تمديدها، وإضافة الغرامة المالية عن كلّ يوم تأخير في الدفع.
سلاسة اللقاءات مع فلسطينيين/فلسطينيات يرافقها، في لحظات عدّة، نوعٌ من إعادة "تمثيل" الجرم الإسرائيلي والحقّ الفلسطيني. رغم هذا، ينعدم ظهور الإسرائيلي في التحقيقات والمحكمة، بينما يظهر في مطاردته فلسطينيين/فلسطينيات يقطفون العكّوب، وبعض اللقطات مُصوَّر بهاتف محمول.
هؤلاء يستمرّون في "استفزاز" الإسرائيلي، فالزعتر والعكّوب فلسطينيان، والإسرائيلي يجهد في تزوير التاريخ والواقع، جاعلاً النبتتين إسرائيليتين. هناك لقاءات تلفزيونية (القناة الإسرائيلية الأولى) عائدة إلى عام 1978، مع زئيف وبورام بن حاروت، والأول ضابط سابق للزراعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والثاني ابنه؛ وتقرير تلفزيوني آخر (القناة 12، عام 2019) بعنوان "حرب العكّوب" لأولبان شيشي. لكنْ، هناك لقاء مباشر، خاص بـ"اليد الخضراء"، مع نبيل نقولا، في "مزرعة العكّوب" التي تُنتج النبتة وتبيعها، والحوار أساسيّ ومهم، إذْ يُبيِّن، ضمناً غالباً، سبباً جوهرياً في المنع الإسرائيلي، لأنّ زراعة النبتة مُربحة، و"العرب يفشلون في زرعها"، فلا تأمين لهم، ذاك التأمين الموفَّر للإسرائيليين في حال خسارة مالية ناتجة من بيع النبة.
أسباب المنع عديدة، فعبر القانون "يحاول الاستعمار تفكيك علاقة الفلسطينيّ بأرضه وهويّته من جهة، وإعطاء السلطة على الأرض ومواردها للإسرائيليّ من جهة ثانية" (مقالة إغبارية). للتجارة والربح دورٌ في ذلك أيضاً، لكنّ الإسرائيلي يريد القضاء على كلّ ارتباطٍ للفلسطيني/الفلسطينية بأرضه وبلده وتاريخه وحقوقه، من دون أنْ يتمكّن من تحقيق كلّي لهذا. فالفرد الفلسطيني غير آبهٍ بما يفعله المحتلّ، إنْ عبر ما يُسمّى بـ"شرطة حماية الطبيعة" ("السلطة الإسرائيلية على الطبيعة والحدائق"، ترجمة حرفية لـIsraeli Nature And Parks Authority)، أو المحقّقين والمحامين، والقضاء.
لا يوجد فرقٌ طبقي بين الفلسطينيين/الفلسطينيات في "اليد الخضراء". فقراء ومنتمون إلى طبقة وسطى يتشاركون عشقاً واحداً للزعتر والعكّوب، ويبحثون عنهما، ويقطفونهما، ويُحضّرون بهما أطباقاً. الإسرائيلي يجهد في منعهم بوسائل مختلفة، والنبتتان يتضاءل نموّهما في الطبيعة (على نقيض زرعهما في الكيبوتز).
الفيلم، إذْ يُقدّم وقائع وحكايات بتكثيف بصريّ (63 دقيقة)، يُصبح وثيقة إضافية تُدين المحتلّ، وتوثِّق نوعاً آخر من مقاومته اليومية.