هل يكفي أنْ تُنجز نساءٌ فيلماً، أقلّه في أساسياته، كي يُصبح الفيلم "نسوياً"؟ سؤال يُطرح ليس لإجابة مشبعة بتنظير وسجال يرتكزان على الاجتماع والثقافة والتربية والسلوك، بل لأنّ قراءة مقالاتٍ قليلة، منشورة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية فرنسية وبلجيكية، عن "حظاً سعيداً لكَ يا ليو غراندي" (2022)، للأسترالية صوفي هايد، تحرّك طرح السؤال، إذ يُصرّ بعض تلك المقالات على أنّ الفيلم نسويّ، أو يقترب من النسوية، بمعاينته حالة امرأة في الستينيات من عمرها، بعلاقتها مع جسدها ورغباتها وسيرتها المليئة بالروتين والقلق والمُثُل، وبرغبتها في تحرير جسدها وروحها من ثقل الماضي، عبر إقامة علاقات جنسية مع "بائع جنس" شاب ووسيم ومغوٍ.
فالفيلم مُنجز بفضل 3 نساء: المخرجة هايد، والكاتبة الإنكليزية كاتي براند، والممثلة البريطانية إيما تومبسن. القصّة مبنية على سيرة امرأة، نانسي ستوكس، المُدرِّسة المتقاعدة (شؤون دينية)، والأرملة التي لها شابٌ وصبيّة، لا يظهران البتّة. هذا كلّه قابلٌ لأنْ يكون "فيلماً نسوياً" (في بعض سرده للحكاية، "دفاعٌ" سينمائيّ موارب ـ أو على الأقلّ قولٌ بصري ـ عن المرأة وحقوق لها، مرتبطة بمسائل الجسد والعلاقات والمشاعر والأمومة وغيرها)، لأنّ الهمّ الأساسيّ فيه مبنيٌ على حقّ المرأة في أنْ تفعل ما ترغب في تحقيقه، وفي أنْ تكسر قيوداً تحاصرها في حياتها، من دون قدرة لها، غالباً، على كسرها.
كلامٌ كثيرٌ تتفوّه به ستوكس أمام بائع الجنس ليو غراندي (داريل ماكورماك)، في 4 جلسات/لقاءات لهما معاً في غرفة فندق (ستبقى نفسها دائماً، لإشاعة بعض الحميميّ، كما ترغب نانسي، في علاقة، يُفترض بها ألاّ تبلغ مرتبة الحميميّ أبداً)، يعكس (الكلامُ) هذا كلَّه، بسلاسةٍ وعمق، يُتيحان للضحك مساحة قليلة، تتلاءم مع مواقف ولحظات وتصرّفات.
إنْ يكن الفيلم نسوياً أم لا، رغم أهمية هذا في التحليل الاجتماعي النفسي الثقافي، يمتلك "حظاً سعيداً لكَ يا ليو غراندي" مقوّمات درامية وجمالية وفنية متماسكة، تُثير ـ إلى بعض الضحك ـ تساؤلاتٍ حيوية عن مشاعر وتربية وعلاقات ورغبات وموروثات وانفعالات، بحدٍّ مُقنع وصادق من كلامٍ، رغم كثرته، غير صانعٍ مللاً أو نفوراً، لتمكّنه من جذبٍ متواصل لسرده الحكاية بنبضٍ متدفّق (مع لحظات قليلة يختلّ فيها هذا النبض، من دون أنْ يفقد حيويته وتدفّقه معاً)، يُضيف أداء إيما تومبسن عليه بهاءً وشيئاً قريباً من السحر، إضافةً إلى ظهورها عاريةً في سنّ متقدّمة (مواليد لندن، 15 إبريل/نيسان 1959)، من دون توريةٍ (ماكياج) إطلاقاً (أم أنّ ممثلة بديلة تتعرّى أمام الكاميرا؟ بحسب المتوفّر من معلومات صحافية، تؤدّي تومبسن نفسها دور نانسي ستوكس كاملاً).
هذا يُذكّر بظهور الإيطالية كلاوديا كاردينالي، شبه عاريةٍ، في "والآن، سيداتي سادتي" (2002)، للفرنسي كلود لولوش، وعمرها آنذاك 64 عاماً (مواليد تونس العاصمة، 15 إبريل 1938). لا جرأة في المسألة، على غرار ما يُردّد البعض، بل اقتناع بمعنى التقدّم في العمر، ومُصالحة مع الذات، جسداً وروحاً ورغبات، وتفوّقاً على الزمن لدحره وعدم الانصياع له. إبراز ملامح شيخوخةٍ في الجسد أمام أناسٍ كثيرين، جزءٌ من مواجهة سلبيات الحياة/الزمن/العمر، وتأكيدٌ على أنّ المشاركة في أفلامٍ، تقول أشياء كثيرة بلغة السينما، أهمّ من كلّ شيءٍ آخر.
يصعب اختزال ما يُقال في لقاءات نانسي ستوكس وليو غراندي. كَمّ هائل من كلامٍ، يتعمّق معظمه في نفسٍ وروحٍ ورغباتٍ وتساؤلات عن المعاني الحياتية المختلفة، كالعلاقة بزوج وأبناء، وبالذات والجسد والروح، وبالجنس والحبّ، وبالأخلاق وتفاصيلها وتأثيراتها، وبالماضي وما يحمله من قسوة وقهر وانكسار وخيبات. كلامٌ كثيرٌ لا ملل فيه، بل تحريض على تنبّه أكبر وأعمق إلى أحوالٍ تُعاش يومياً، رغم أنّه مُكرّر في أفلامٍ مُشابهة، تتنافس فيما بينها في جماليات الاشتغال البصري، والمعالجة الدرامية، والأداء التمثيلي، إضافةً إلى التقنيات الأخرى.
فيلم صوفي هايد يُذكِّر باشتغالٍ رائع ومهمّ، يُنجزه الأميركي تومي لي جونز (إخراجاً وتمثيلاً) بعنوان "الغروب الجزئي" (The Sunset Limited)، المُقتبس من مسرحية بالعنوان نفسه (2006)، للكاتب الأميركي كورماك ماكارثي، كاتب سيناريو الفيلم التلفزيوني هذا، المُنجز عام 2011 لـHBO Films. هناك أكثر من مشترك بين العملين: وحدة المكان (غرفة فندق في فيلم هايد، استديو/منزل صغير للغاية في عمل لي جونز)؛ شخصيتان أساسيتان اثنتان فقط: نانسي وليو في الأول (مع ظهور عابر وسريع لشخصيات أخرى ثانوية، في نهايته)، وبلاك (صامويل أل جاكسن) ووايت (لي جونز) في الثاني؛ كلامٌ وفيرٌ من دون ملل، يتناول كلّ المذكور أعلاه، وما يُشبهه، في سردٍ متواصلٍ، يُراد منه نقاشٌ يُعرّي الكائن البشريّ ويُفكّكه، في انفعالاته وأفكاره وهواجسه ومخاوفه وأسئلته وقلقه ورغباته.
هذا كلّه غير منتقصٍ من فيلمٍ أو شخصية أو حالة أو نقاشات. إنّها مجرّد مقارنة غير مانعةٍ قولاً مفاده أنّ المضمون، المحمَّل بأسئلة ومشاعر وارتباكات، مطروحٌ ـ في الفيلمين ـ بأسلوبٍ سينمائي (عمل تومي لي جونز مندرج في نوع الفيلم التلفزيوني، مع امتلاكه حساسية وعمقاً مُصوّرين بجاذبيّة وجماليات مختلفة)، يُحرِّك الكاميرا (براين مايسن في فيلم صوفي هايدن، وبول إليوت في فيلم تومي لي جونز) في إطار مكانيّ ضيّق، لإبراز ما يعتمل في كلّ فردٍ من الأفراد الـ4، وهذا وحده كافٍ لتبيان عمق ما يُقال، عبر أداءٍ يتساوى في براعته الممثلون الـ3 وإيما تومبسن، بتفاوتٍ قليلٍ بينهم.
مُشاهدة "حظاً سعيداً لكَ..." ممتعة، رغم ما فيها من تساؤلات واعترافات، لنانسي ستوكس ولوي غراندي معاً، مليئة بغضبٍ وألمٍ وقهرٍ ورغباتٍ واختبارات.