قدّم المخرج الألماني الشاب إيلكر تْشَتاك (39 عاماً) رؤية مثالية ناضجة وعميقة، في فيلمه الأخير "غرفة المعلّم" (2023)، جاعلاً منه مُجسّماً عملياً للمجتمع الألماني خاصة، والغربي عامة. انعكست تلك الرؤية ـ الموقف الحاد في تفاصيل عدّة، أبرزها وأهمّها مشكلة الهوية، وما اتّصل بهذا المصطلح من مشاكل، كالتعاطي مع الآخر، الذي يمثّله المهاجر والمختلف عن الفرد الألماني ـ الغرب الأبيض، ممن يعتقدون أنّهم الأفضل والأنقى والأهم من الوافدين عليهم، بألوانهم ودياناتهم وانتماءاتهم وأصولهم، الذين سيبقون متّهمين حتى إثبات العكس، ومشتبه بهم في أيّ موقف سلبي يحدث، ولا يهم إنْ ولد وتربّى وتقبّل الثقافة الغربية بمكوّناتها، إذْ سيبقى بالنسبة إليهم وافداً طارئاً عليهم، لمجرد اختلافه عنهم، خاصة في اللون. لذا، يحيطون أنفسهم بجدران عالية تفصلهم عنهم، لأنّهم يرفضونهم، ولا يرغبون في الاندماج معهم بأي شكل من الأشكال.
رسم تْشَتاك (المخرج وكاتب السيناريو) أبعاد هذا الوجع في شكله المُصغّر. فـ"غرفة المعلّم" ـ المُشارك في بانوراما الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي" ـ موقفٌ له ولكثيرين من أمثاله، أقلّه ظاهرياً. اختار المدرسة فضاءً عامراً بالأسئلة، وحيّزاً للأحداث، بوصفها منطلق أفكار، ومربط أحكام، ومصنع أحلام ومستقبل. من يفهم الطلاب وطريقة تفكيرهم ونظرتهم إلى الأشياء، يفهم المجتمع الألماني، ويعرف كيف يُفكّر بالأشياء وينظر إليها. هكذا تتشظّى الفكرة في التفاصيل، ويأخذ الصراع أبعاداً عدة، من منطلق تنوّع الـ"كادر"، الإداري والتعليمي، الذي يجمع هويات عدّة (للمخرج أصول تركية).
إنّه التنوّع نفسه الذي يتجسّد في المدرسة، ما يُقوّي الموقف الفني للفيلم، نتيجة سهولة رسم العناصر الدرامية، وما تفرزه من مبادئ التشويق والإثارة والترقّب والانتظار والمعالجة، وأيضاً تقديم قِيَم فكرية وحضارية لائقة من الراهن واليومي المُعاش، لفهم المنظومة التربوية الألمانية، وكيفية تعاملها مع الأشياء، من منطلقات قانونية، أو من وجهة نظر أخلاقية.
يروي "غرفة المعلّم" (اختيار رسمي لتمثيل ألمانيا في النسخة الـ96 لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي، التي تُقام في 10 مارس/آذار 2024) قصة بسيطة للغاية، يُمكن أنْ تحدث في أيّ مكان. لكنّ تْشَتاك أثّثها بجماليات غير محدودة، واستطاع جعل العادي نقطة ارتكاز أساسية، صنع بها مواجهات عدة، تناسلت منها مواقف ورمزيات متنوّعة، ساعدت في صنع موقف قوي، إذْ جعل المدرسة عالماً مُصغّراً يعكس توجّه الغرب، عامة.
تُدرِّس كارلا نواك (ليوني بينيش)، بولنديّة الأصل، الرياضيات والتربية البدنية لتلاميذ الصف السابع. لكنّها ليست راضية عن سلوك زملاء لها، مُدرّسين وإداريين، بعد سلسلة سرقات (أقلام وأموال وحاجات أخرى) من صالة المُدرّسين، الذين يشكّون في التلاميذ. لكشف الفاعل، اتُّخذت إجراءات أضرّت بسمعة التلاميذ ونفسيّاتهم، كاتّهام التلميذ علي (كان رودنبوستل)، بعد العثور على مالٍ في محفظته، فحضر والداه، وقالا إنّهما أعطياه المبلغ لشراء هدية لابن عمه، واعتبرا سلوك المُدرّسين والإداريين عنصريّاً، لأنّ ابنهما مسلم، وينتمي إلى عائلة مهاجرة. انعكس هذا على تعامل زملاء له، رأوا أنّه يقف خلف السرقات، ما أثّر على نفسيّته رغم تبرئته. فالناس ينظرون دائماً إلى الاتهام، ولا يُبالون بما بعده.
هذا السلوك رفضته نواك، خاصة أنّهم فتّشوا التلاميذ من دون تنسيق مسبق معها. كما رفضت السلوك السلبي إزاء ما بعد الحادث، وظنّت أنْ لا علاقة للتلاميذ بالسرقات، مُعتقدةً أنّها مُتعلّقة بالبالغين، فنصبت كميناً في صالة المُدرّسين، تمثّل بترك كاميرا حاسوبها مفتوحة، ومُوجّهة إلى معطفها وحافظة نقودها، وهي تُدرك ما فيها. عند عودتها، اكتشفت أنّ هناك من سرق مبلغاً منها، وعندما تفقّدت الكاميرا لم تر وجه السارق، بل فقط شكل كنزته ولونها. بعد البحث، اكتشفت أنّ الكنزة للموظّفة فريدريك كوهن (إيفا لوبو)، فتواصلت معها بخجل، محاولة إقناعها بإعادة المبلغ بشكل وديّ، وإغلاق ملف السرقة نهائياً. لكنّها أنكرت بشدّة، فذهبت نواك إلى المديرة بون (جميش آن - كاثرين) مُقدِّمةً لها القرينة المادية. استُدعيت المُتّهمة، ووُجهت بالدلائل، ورغم هذا تمسّكت بإنكارها، ما حتّم البدء بإجراءات قانونية ضدها، فأوقفت مؤقّتاً إلى حين انتهاء التحقيقات.
بهذا، دخل الفيلم في مرحلة أخرى من الصراع، خاصة أنّ الأمر أثّر كلّياً على التلميذ النجيب أوسكار كوهن، ابنها المتّهمة، ما أدخل الجميع في سلسلة أحداث سلبية. فكارلا مثلاً، التي تنازلت عن حقّها، باتت تواجه مسألة أخرى: التصوير من دون إذن، وعدم احترام خصوصية المُدرّسين.
في هذا الصراع، قدّم إيلكر تْشَتاك صورة شاملة عن كيفية تعامل المؤسّسات التربوية الألمانية مع القضايا المطروحة. فمثلاً، هناك لجنة تربوية موسّعة تُطرح القضايا عليها، من بين أعضائها ممثّلون عن التلاميذ، رغم أن عمر الواحد منهم 12 سنة. وهناك مجلة مدرسية، تناولت السرقات وتعامل المُدرّسين بعنصرية مع زميلهم، فتمّ إيقافها. هذا عَكَس، بشكل ما، ثنائية السلطة وتعاملها مع الإعلام، إزاء قضايا لا تعجبها، أو تضرّ بها.
"غرفة المعلّم" صرخة في وجه الأحكام الجاهزة، وإدانة واضحة لكلّ أشكال العنصرية المقيتة، ومرآة عاكسة لسلوك أفراد ومؤسّسات غربية إزاء الوافدين. هذا كلّه قدّمه تْشَتاك بجمالية غير محدودة، مع سيناريو قوي تَمّ بناؤه بإحكام، ومُعالجة إخراجية رزينة، واختيارات فنية، كتوزيع الأدوار، خاصة الممثلة ليوني بينيش، التي أظهرت موهبة كبيرة بتعاطيها الفيزيائي والنفسي مع الدور، ما يدلّ على أنّها ممثلة مجتهدة، عكست أوجاع شخصيتها وتخوّفاتها بكل مقدرة، ونقلت شعور الارتباك وعدم الرضا إلى المتلقّي، وهذا أحد المعطيات الأساسية المُساهمة في نجاح الفيلم.