استمع إلى الملخص
- يتميز الفيلم ببراعة كيتانو في رسم الشخصيات وتطوير الحبكة، مع استخدام ممثلين مألوفين في أدوار ثانوية، ويؤدي كيتانو دور البطولة.
- يتناول الفيلم موضوعات مثل نقص التمويل وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وينقسم إلى فصلين يعكسان قدرة كيتانو على تقديم كوميديا متعددة الطبقات وتحطيم القوالب التقليدية.
في "غضب محطم"، ينسج الياباني تاكيشي كيتانو (1947) عملاً مُبهجاً للغاية، شديد البساطة والتقشّف، ورفيع المستوى فنياً، استناداً إلى مهارة وإبداع وخبرة سينمائية تجاوزت أربعة عقود، منذ بدايته ممثلاً كوميدياً، قبل انتقاله إلى الإخراج. ورغم تحطيمه أصنام النوع السينمائي المُحبّب لديه (أفلام العنف والجريمة والمافيا والقتلة)، وزيادة جرعة الكوميديا والسخرية من كلّ شيء تقريباً، فلم يحد كثيراً عن خطّه السينمائي المعهود، وسينماه الخاصة، فجديده هذا يتضمن التيمات والمفردات نفسها تقريباً، الموجودة في أغلب أعماله: العنف والدراما والكوميديا.
في "غضب محطم"، وغيره من أفلامٍ له، هناك قتل ودماء وأسلحة وعصابات، خاصة "الياكوزا" اليابانية الشهيرة. ببراعة فنّية، يمزج كيتانو هذا الخليط، ويُقدّم ما يوصف بالعنف الفني الجميل، المبتعد عن الابتذال والمجانية والتجارية. يبرز أيضاً الحضور القوي للدراما الفنية المُقنعة، والبناء الهرمي الواضح والمتصاعد بمنتهى السلاسة، من دون افتعال أو تعقيد. لدى كيتانو مهارة لافتة في رسم الشخصيات، وتطوير خيوط الحبكة، التي يكتبها بنفسه عادة. أما أبرز مقوّمات سينماه، فالكوميديا والسخرية والنكات. ربما له السبق في كونه أحد أساتذة هذا النوع السينمائي، المعتمد على فلسفة سينمائية تخلط الكوميديا أو الهزل والسخرية والضحك بالجريمة والقتل والعصابات والإثارة، بمهارة ونجاح وتفرّد. ففي أفلامه النوعية، بالغة الجدية والإثارة، والعصيّة أصلاً على إثارة الضحك، يبثّ كيتانو، بذكاء وحِرفية ومن دون افتعال، سخريةً وضحكاً، أو كوميديا صادقة تبلغ أحياناً حّد الـ"فَارْس" أو المهزلة، من دون مجانية أو تسطيح أو استهانة بالمتفرّج، وبالنوع السينمائي نفسه.
يُلاحظ أنّ من مميزات سينماه، المنطبقة على أحدث أفلامه، أنّه لا يحيد كثيراً عن الاستعانة بالممثلين أنفسهم. وبينما يؤدّي في جديده دور البطولة وحده، فإنّ أبطالاً عديدين مألوفين يؤدّون فيه أدواراً ثانوية. عن عمد، وبوعي وحِرفية، يُحطّم كيتانو في جديده مسلّمات سينمائية كثيرة راسخة، أو صارت بمثابة كليشيهات، في هذا النوع السينمائي أو في غيره من أفلام الإثارة. إذْ يسخر، بدرجة غير مسبوقة ومن دون ابتذال وبفنية راقية، من أفلام العنف والجريمة والعصابات/ المافيا. وهذا نوع سائد ورائج ومُحبّب لكثيرين، يحبّون القصص الذائعة والمتكرّرة عن العنف وممارسته، والعصابات ومشاحناتها، وإجرام القتلة المستأجرين، وحروب المافيا، إلخ. من ناحية أخرى، تشتمل سخريته على مفردات عريقة من رواسخ السينما العالمية، اليابانية خاصة، المتعلّقة بهذا النوع. مثلاً: من "الياكوزا" اليابانية، والتقاليد والعادات المرتبطة بالمهنة، وأساليب المافيا وقوانينها، والمحقّقين وأساليب تحقيقاتهم وتعذيبهم، وصولا إلى أبطال هذا النوع، أي عتاة المجرمين والسفّاحين والقتلة المستأجرين. أخيراً، من السينما إجمالاً، ومن نفسه أيضاً.
في "غضب محطم"، تجلّى هذا في سخريته من نقص التمويل، ومن الممولين (شركة آبل مُساهمة في إنتاجه)، ومن طول مفرط في مدّة أفلامٍ، ومن وسائل التواصل الاجتماعي وروّادها، ومن ماركة هواتف "سامسونغ". هذا كلّه في سياق يصل به إلى ذروته عند تأكيده أنّه يمطّ الأحداث لتتجاوز مدّة الفيلم 60 دقيقة. كأنّه يلقي كلمة وداع فنية أخيرة، ويُعبّر عن رأيه السينمائي صراحةً، ضارباً عرض الحائط بكلّ شيء تقريباً.
من دون مبالغة، "غضب محطم" درسٌ احترافي موجز في المحاكاة الساخرة، وكيفية كتابة الكوميديا متعّددة الطبقات، وفي بساطة تحطيم القوالب والسائد والمطروق. ينقسم إلى فصلين متساويين زمنياً: في الأول، تتحرّك القصّة بسرعة، وتتقدّم بالوتيرة المتوقعة لهذا النوع من الأفلام، وبقدر من الافتعال المقصود طبعاً. يبدأ كفيلم إثارة وجريمة، ويتّسم بالجدّية إلى حدّ كبير، قبل أنْ تتبدّل النبرة تماماً. هناك القاتل الأجير نيزومي أو ماوس (كيتانو) الذي يقتل بمهارة ولا يترك أثراً، بمسدسه أو بيديه (الخنق). بعد تلقيه أوامر عدّة لتنفيذ مهمات، تُلقي الشرطة القبض عليه مصادفة، فيسجن ويُعذّب، ثم يُطلق سراحه في صفقة مقايضة: في مقابل حريته، يعمل جاسوساً لشرطة طوكيو. يوافق، ثم يتسلّل إلى صفوف المافيا.
في الثاني، الكوميدي الساخر، تُروى القصة نفسها بحذافيرها، مشهداً تلو آخر. لكنْ هذه المرة بكوميديا بالغة السخرية والخرافة والعبثية، تنتزع ضحكات صادقة. إذْ فجأة ينقلب القاتل، بالغ الحِرفية والذكاء والمهارة، إلى قاتل أخرق وبائس وضعيف، يفشل في تنفيذ المهام نفسها.
في الظاهر، يبدو "غضب محطم" تسلية بسيطة، بغرض الضحك للضحك، يُقدّم إثارةً عبر قصة جريمة وتشويق. لكنّ التأمّل العميق فيه، وفي السخرية المُسدّدة بمهارة إلى أهداف مقصودة، يكشف أنّ السخرية ليست للسخرية بحدّ ذاتها، وليست مجانية، بل تحمل في طياتها فلسفة سينمائية، وصدقاً فنّياً أصيلاً. وقبل كل شيء، يكشف عن فنان مخلص وذكي، يُعيد التفكير بعلاقته بنوع سينمائي فَقَد بريقه وخفت وهجه، وبعلاقته بالسينما إجمالاً. وربما بمدى قدرته على قول ما يريد بإيجاز وتكثيف وعمق، ومن دون إثقال على الجمهور، في ما لا يزيد عن ساعةٍ واحدة.